نجاح القاري لصحيح البخاري

باب قول الله تعالى: {هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين}

          ░11▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ ╡: {قُلْ}) أي: يا محمَّد، خطاباً للمنافقين المتخلِّفين الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ}؛ أي: إن يُصِبْك في بعض غزواتك ظفر وغنيمة {تَسُؤْهُمْ} لفرط حسدهم {وَإِنْ تُصِبْكَ} في بعضها {مُصِيبَةٌ} شدَّة كما أصاب يوم أحد {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} تبجَّجوا بانصرافهم، واستَحْمَدوا آراءهم في التَّخلف.
          {وَيَتَوَلَّوْا} عن متحدَّثهم بذلك ومجتَمَعِهم له أو عن الرَّسول {وَهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون {قُلْ} يا محمَّد {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا}؛ أي: إلَّا ما اختصَّنا بإثباته وإيجابه من النُّصرة أو الشَّهادة، أو ما كتب لأجلنا في اللَّوح لا يغيِّر بموافقتكم ومخالفتكم {هُوَ مَوْلَانَا} ناصرنا ومتولِّي أمرنا {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:50-51] لأنَّ حقَّهم أن لا يتوكلوا على غيره، ثمَّ قال تعالى: قل ({هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا}) أي: تنتظرون بنا ({إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52]) أي: إلَّا إحدى العاقبتين اللَّتين كل منهما حسنى العواقب، إمَّا النُّصرة والظَّفر بالكفار، أو الشَّهادة، قاله ابن عبَّاس ☻ ومجاهد / وقتادة وآخرون، وذلك أنا إذا قاتلنا الكفار ووقع بيننا وبينهم حروبٌ فإنْ غلبناهُم وظفرنا بهم تكون لنا الغنيمة والأجر، وإن كان عكسه تكون لنا الشَّهادة، وهذا معنى كون الحرب سجالاً على ما سيأتي تفسيره، وآخر الآية: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} أيضاً إحدى السَّوءتين {أَنْ يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} بقارعةٍ من السَّماء {أَوْ بِأَيْدِينَا} أو بعذاب بأيدينا، وهو القتلُ على الكفر {فَتَرَبَّصُوا} ما هو عاقبتنا {إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52] ما هو عاقبتكم.
          (وَالْحَرْبُ سِجَالٌ) بكسر السين، جمع: سجل في الأصل، وهو: الدَّلو إذا كان ملآن ماء، ولا تكون الفارغة سجلاً، وسجال هنا من المساجلة وهي المناولة في الأمر، وأن يفعل كلٌّ من المتساجلين مثل ما يفعل صاحبه، فتارةً له وتارةً لصاحبه، فيكون معنى قوله: الحربُ سجال يكون الأمر تارةً لنا وتارةً علينا في الظَّاهر، وفي الصُّورتين في الحقيقة لنا، ففي غلبتنا يكون الفتح والظَّفر، وفي غلبتهم تكون الشَّهادة، وكلٌّ منهما حُسنى.
          وهذا مطابقٌ لمعنى الآية، وكلُّ فتحٍ يقع إلى يوم القيامة فإنَّها إحدى الحسنيين، وكلُّ قتلٍ في سبيل الله فإنَّها الحسنى الأخرى، وإنَّما يبتلي الله تعالى الأنبياء ‰ ليعظم لهم الأجر والثَّواب ولمن معهم وتبعهم، ولئلا يخرق العادة الجارية بين الخلق، ولو أرادَ الله خرقَ العادة لأهلك الكفَّار بغير حربٍ لكن جرتْ عادة الله تعالى بذلك، وهو أعلم بالمصالح.