نجاح القاري لصحيح البخاري

باب استئذان الرجل الإمام لقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا}

          ░113▒ (باب اسْتِئْذَانِ الرَّجُلِ) من الرَّعيَّة (الإِمَامَ) أي: طلبه الإذن من الإمام في الرُّجوع، أو التَّخلُّف عن الخروج ونحو ذلك (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) ويروى: <╡> ({إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62]) / أي: من صميم قلوبهم ({وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ}) كالجمعة والأعياد والحروب والمشاورة في الأمور، وُصِفَ الأمرُ بالجَمْعِ للمبالغة. وقُرِئ في الشَّواذ: (▬أمر جميع↨).
          ({لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ}) أي: يستأذنوا رسول الله صلعم فيأذن لهم واعتباره في كمال الإيمان؛ لأنَّه كالمصداق لصحَّته، والمميِّز للمخلص فيه عن المنافق، فإنَّ دَيْدنه التسلُّل والفرار؛ لتعظيم الجُرْمِ في الذَّهاب عن رسول الله صلعم بغير إذنه، ولذلك أعاده على أسلوب بليغٍ فقال: ({إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ) أي: انته إلى آخر الآية، واقرأ بتمامها، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ} فذلك يفيد أنَّ المستأذن مؤمنٌ لا محالة، وأنَّ الذاهب بغير إذنٍ ليس كذلك.
          {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} ما يعرض لهم من المهام، وفيه أيضاً مبالغةٌ وتضييقٌ للأمر {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ} هذا تفويضٌ للأمر إلى رأي رسول الله صلعم ، واستدلَّ به على أنَّ بعض الأحكام مفوَّضةٌ إلى رأيه، ومن منع ذلك قيَّد المشيئة بأن تكون تابعةً لعلمه بصدقه، فكان المعنى: فأذن لمن علمت أن له عُذْراً.
          {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ} بعد الإذن فإنَّ الاستئذان، ولو لعذرٍ قصور؛ لأنَّه تقديمٌ لأمر الدُّنيا على أمر الدِّين {إِنَّ اللهَ غَفُوْرٌ} لفرطات العباد {رَحِيْمٌ} بالتَّيسير عليهم.
          ووجه الاستدلال بهذه الآية: أنَّ الله تعالى جعل ترك ذهابهم عن مجلس رسول الله صلعم حتَّى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطتْ صلته بذكر الإيمانين.
          ثمَّ عقَّبه بما يزيده توكيداً وتشديداً؛ حيث أعاده على أسلوبٍ آخر، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النور:62].
          قال المفسرون: كان النَّبي صلعم إذا صعد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجةٍ أو عذرٍ لم يخرج حتَّى يستأذن؛ / أي: يقوم فيراه صلعم ، فيعرف أنَّ له حاجة فيأذن له.
          وقال مجاهد: وإذْنُ الإمام يوم الجمعة أن يشيرَ بيده، ولم يأمرْه الله تعالى بالإذن لكلِّهم، بل قال: فأذن لمن شئت منهم.
          وقال مقاتل: نزلت في عمر ☺ استأذن في الرجوع إلى أهله في غزوة تبوك فأذن له وقال: انطلق، ما أنت منافقٌ، يريد بذلك تسميعَ المنافقين.
          وقال المهلَّب: هذه الآية أصلٌ: أن لا يَبْرَحَ أحدٌ من السُّلطان إذا جمع النَّاس لأمرٍ من أمور المسلمين يحتاج فيه إلى اجتماعهم إلَّا بإذنه، فإن رأى أن يأذن، وإلَّا لم يأذن له.
          وقال ابنُ التِّين: هذه الآية احتجَّ بها الحسن على أنه ليس لأحدٍ أن يذهب من العسكر حتَّى يستأذن الأمير، وهذا عند سائر الفقهاء كان خاصاً بالنَّبي صلعم ، كذا قال.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: والذي يظهر أنَّ الخصوصية في عموم وجوب الاستئذان، وإلَّا فلو كان ممَّن عينه الإمام فطرأ له ما يقتضي التخلُّف، أو الرجوع فإنَّه يحتاج إلى الاستئذان بالاتفاق، والله تعالى أعلم.