إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن الله خير عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده فاختار

          466- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ) بكسر السِّين المُهمَلة ثمَّ نونين بينهما ألفٌ (قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ) بضمِّ الفاء وفتح اللَّام آخره حاءٌ مُهمَلةٌ، ابن سليمان (قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ) بفتح النُّون وسكون المُعجَمة، سالم بن أبي أميَّة (عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ) بضمِّ العين والحاء المُهمَلتين فيهما، وفتح النُّون في الثَّاني، مُصغَّرين، المدنيِّ (عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ) بضمِّ المُوحَّدة وإسكان المُهمَلة وكسر العين في الثَّاني، المدنيِّ العابد، مولى ابن الحضرميِّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ) ولأبي ذَرٍّ والأَصيليِّ: ”عن أبي زيدٍ عن عبيد بن حنينٍ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ“ فأسقطا(1) «بسر بن سعيدٍ»، وكذا وُجِد تصويبه على الأصل المسموع على الحافظ أبي ذَرٍّ، وأنَّ الفَـِرَبْريَّ قال: إنَّ الرِّواية هكذا، أي: بإسقاطه، ونقل ابن السَّكن عن الفَـِرَبْريِّ عن البخاريِّ أنَّه قال: هكذا حدَّث به محمَّد بن سنانٍ عن فليحٍ، وهو خطأٌ، وإنَّما هو عن عُبَيْد بن حُنَيْنٍ، وعن بسر بن سعيدٍ، يعني: بواو العطف، قال الحافظ ابن حجرٍ: فعلى هذا يكون أبو النَّضر سمعه من شيخين، حدَّثه كلٌّ منهما به عن أبي سعيدٍ، فحذْفُ العاطف خطأٌ من محمَّد بن سنانٍ أو من فُلَيْحٍ، وحينئذٍ فانتقاد الدَّارقُطنيِّ على المؤلِّف هذا الحديث مع إفصاحه بما ذكر لا وجه له، وليست هذه بعلَّةٍ قادحةٍ، والله أعلم. (قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ: إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَ عَبْدًا) من التَّخيير (بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ) أي: عند الله في الآخرة (فَاخْتَارَ) العبد (مَا عِنْدَ اللهِ) سقط عند الأَصيليِّ وابن عساكر قوله: «فاختار ما عند الله» وضُرِبَ عليه عند أبي الوقت (فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ ☺ ) وللأَصيليِّ: ”أبو بكر الصِّدِّيق“ قال أبو سعيدٍ: (فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ) نُصِبَ على المفعوليَّة، وكلمة «ما»: استفهاميَّةٌ (إِنْ يَكُنِ اللهُ خَيَّرَ عَبْدًا) كذا في رواية الأكثرين(2)، وهو بكسر همزة «إن» الشَّرطية، و«يكن»: فعل الشَّرط مجزومٌ كُسِرَ لالتقاء الساكنين، أي: أيُّ شيءٍ يبكيه من كون الله خيَّر عبدًا؟ وللكُشْمِيْهَنِيِّ من غير «اليونينيَّة»: ”إن يكن لله عبدٌ خُيِّر“ بكسر «إن»، و«يكن»: مجزومٌ به كذلك، و«عبدٌ»: مُبتدَأٌ وخبره «لله» مُقدَّمًا، و«خُيِّر» بضمِّ الخاء مبنيًّا للمفعول في موضع رفعٍ صفةٌ لـ «عبدٌ»، وفي بعض النُّسخ _كما في «اللَّامع»_: ”أن“ بالفتح، وجعله الزَّركشيُّ من تجويز السَّفاقسيِّ، أي: لأجل أن، لكن يشكل الجزم حينئذٍ في «يكن»، وأجاب ابن مالكٍ بأنَّه(3) يُقال فيه ما قِيلَ في حديث: «لن تُرَعْ»، فإنَّه سُكِّن مع النَّاصب _وهو «لن»_ للوقف، فأشبه المجزوم فحُذِفت(4) الألف كما تُحذَف في المجزوم، ثمَّ أجرى الوصل مجرى الوقف. انتهى. والجزاء محذوفٌ يدلُّ عليه السِّياق، وفيه ورود الشَّرط مضارعًا مع حذف الجزاء، أو(5) الجزاء قوله: «فاختار»، وفي «اليونينيَّة» من غير علامةٍ: ”أن يكون عبدًا خُيِّر“ (بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ) تعالى (فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ؟! فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم هُوَ العَبْدَ) المُخيَّر، وسقط قوله: «فاختار ما عند الله» للأَصيليِّ وابن عساكر، وضرب عليه أبو الوقت (وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيق ☺ ‼ (أَعْلَمَنَا) حيث فَهِمَ أنَّه _رسول الله صلعم _ يفارق الدُّنيا، فبكى حزنًا / على فراقه، وعبَّر بقوله: «عبدًا» بالتَّنكير ليظهر نباهة أهل العرفان في تفسير هذا المُبهَم، فلم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به، فبكى وقال: بل نفديك بأموالنا وأولادنا، فسكَّن الرَّسول صلعم جزعه (فقَالَ) ولغير الأَصيليِّ وأبي ذَرٍّ عن الكُشْمِيْهَنِيِّ ”قال“: (يَا أَبَا بَكْرٍ، لَا تَبْكِ) ثمَّ خصَّه بالخصوصيَّة العظمى فقال: (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ) بفتح الهمزة والميم وتشديد النُّون من أَمَنَّ، أي: أكثرهم جودًا بنفسه وماله، أي: بلا استثابةٍ، ولم يُرِد به(6) المنَّة لأنَّها تفسد الصَّنيعة(7)، ولأنَّه لا منَّة لأحدٍ(8) عليه ╕ ، بل منَّته والله على جميع الخلائق(9)، وقال القرطبيُّ: هو من الامتنان، يعني: أنَّ أبا بكرٍ ☺ له من الحقوق ما لو كان لغيره لامتنَّ بها، وذلك لأنَّه بادر بالتَّصديق ونفقة الأموال، وبالمُلازَمة والمُصاحَبة(10) إلى غير ذلك بانشراح صدرٍ ورسوخ علمٍ بأنَّ الله ورسوله لهما المنَّة في ذلك، لكنَّ الرَّسول ╕ بجميل أخلاقه وكرم أعراقه(11) اعترف بذلك عملًا بشكر المنعم، وفي حديث أبي هريرة ☺ عند التِّرمذيِّ مرفوعًا: «ما لأحدٍ عندنا يدٌ إِلَّا كافأناه، ما خلا أبا بكرٍ، فإنَّ(12) له _واللهِ_ عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة» (وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا) أي: أختار وأصطفي (مِنْ أُمَّتِي) كذا للأربعة، ولغيرهم: ”ولو كنت متَّخذًا من أمَّتي خليلًا“ (لَاتَّخَذْتُ) منهم (أَبَا بَكْرٍ) لكونه متأهِّلًا لأن يتَّخذه ╕ خليلًا، لولا المانع وهو أنَّه ╕ امتلأ قلبه بما تخلَّله من معرفة الله تعالى ومحبَّته ومُراقَبته، حتَّى كأنَّها مُزِجَت أجزاء قلبه بذلك، فلم يتَّسع قلبه لخلَّةٍ غير الله ╡ ، وعلى هذا فلا يكون الخليل إِلَّا واحدًا، ومن لم ينتهِ إلى ذلك ممَّن تعلَّق القلب به فهو حبيبٌ، ولذلك أثبت ╕ لأبي بكرٍ وعائشة ♦ أنَّهما أحبُّ النَّاس إليه، ونفى عنهما الخلَّة الّتي هي فوق المحبَّة، وللأَصيليِّ: ”لاتَّخذت أبا بكرٍ، يعني: خليلًا“ (وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلَامِ) أفضل، وللأَصيليِّ: ”ولكن خُوَّة الإسلام“ بحذف الهمزة، ونقل حركة الهمزة إلى النُّون وحذف(13) الهمزة، فتُضَمُّ فيُنطَق(14) بها كذلك، ويجوز تسكينها تخفيفًا، فتحصَّل فيها(15) ثلاثة أوجهٍ: سكون النُّون مع ثبوت الهمزة على الأصل، ونقل ضمَّة الهمزة للسَّاكن قبلها وهو النُّون، والثَّالثة كذلك، لكن استُثِقلت ضمَّةٌ بين كسرةٍ وضمَّةٍ فسكنت تخفيفًا، فهذه فرع الفرع. انتهى. (وَمَوَدَّتُهُ) أي: مودَّة الإسلام، وهي بمعنى الخلَّة، والفرق بينهما باعتبار المُتعلَّق، فالمُثبَتة ما كان(16) بحسب الإسلام، والمنفيَّة بجهةٍ أخرى، يدلُّ عليه قوله في الحديث الآخر: «ولكن خلَّة الإسلام أفضل»، والمودَّة الإسلاميَّة متفاوتةٌ بحسب التَّفاوت في إعلاء كلمة الله تعالى، وتحصيل كثرة الثَّواب، ولا ريب أنَّ الصِّدِّيق ☺ كان أفضل الصَّحابة ♥ من هذه الحيثيَّة (لَا يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ) بالبناء للفاعل، والنُّون مُشدَّدةٌ للتَّأكيد‼، و«بابٌ» رُفِع على الفاعليَّة، والنَّهيُ راجعٌ إلى المُكلَّفين(17) لا إلى «الباب» فكنَّى بعدم البقاء عن عدم الإبقاء لأنَّه لازمٌ له، كأنَّه قال(18): لا يبقيه أحدٌ حتَّى لا يبقى، وفي بعض النُّسخ(19): ”لا يُبقيَنَّ“ مبنيًّا للمفعول، فلفظ «بابٌ» نائبٌ عن الفاعل، أي: لا يُبْقِ أحدٌ في المسجد بابًا (إِلَّا) بابًا (سُدَّ) بحذف المُستثنَى المُقدَّر بـ «بابًا»، والفعل صفته، وحينئذٍ فلا يُقال: الفعل وقع مُستثنًى ومُستثنًى منه، ثمَّ استثنى من هذا فقال: (إِلَّا بَابَُ أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيق ☺ ، بنصب «باب» على الاستثناء، أو برفعه على البدل، وفيه دلالةٌ على الخصوصيَّة لأبي بكرٍ الصِّدِّيق ☺ بالخلافة بعده ╕ والإمامة دون سائر النَّاس، فأبقى خوخته دون خوخة(20) غيره، وهو يدلُّ على أنَّه يخرج منها إلى المسجد دون غيره(21) للصَّلاة، كذا قرَّره ابن المُنَيِّر، وعُورِض بما في «التِّرمذيِّ» من حديث ابن عبَّاسٍ ☻ : «سدُّوا الأبواب إلَّا باب عليٍّ»، وأُجيب بأنَّ التِّرمذيَّ قال: إنَّه غريبٌ، وقال ابن عساكر: إنَّه وهمٌ، لكن للحديث طرقٌ يقوِّي بعضها بعضًا، بل قال الحافظ ابن حجرٍ في بعضها: إسناده قويٌّ، وفي بعضها: رجاله ثقاتٌ، وفيه: أنَّ المساجد تُصان عن تطرُّق النَّاس إليها في خوخاتٍ ونحوها، إِلَّا من أبوابها إِلَّا لحاجةٍ مهمَّةٍ، وسيكون لنا عودةٌ إن شاء الله تعالى إلى ما(22) في ذلك من البحث / في الفضائل.
           وفي الحديث: التَّحديث والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلِّف في «فضل أبي بكرٍ ☺ » [خ¦62/3-5510]، ومسلمٌ في «الفضائل».


[1] في (د): «بإسقاط».
[2] في (م): «كثيرين».
[3] في (ب) و(س): «بأن».
[4] في (ص): «فحذف».
[5] في (د): «و».
[6] «به»: ليس في (ص).
[7] في (م): «الصَّنعة».
[8] في (د) و(م): «ليس لأحد».
[9] في (د) و(م): «الخلق».
[10] في غير (ص) و(م): «بالمصاحبة».
[11] في (م): «أعرافه».
[12] زيد في (م): «والله»، وليست في «سنن التِّرمذيِّ» (3661).
[13] في (د) و(م): «بحذف».
[14] في (ب) و(د): «لينطق»، وفي (م): «للنُّطق».
[15] في (ص): «منها».
[16] في (د) و(ص): «كانت».
[17] في (ص): «للمُكلَّفين».
[18] «قال»: سقط من (د).
[19] في غير (د) و(م): «وفي نسخة».
[20] «خوخة»: سقط من (د) و(م).
[21] «دون غيره»: مثبتٌ من (د) و(م).
[22] في (د): «لِما».