الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب الغيبة

          ░46▒ (باب: الغيبة، وقول الله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات:12] [إلى آخره].)
          قالَ الحافظُ: هكذا اكتفى بذكر الآية المصرِّحة بالنَّهي عن الغيبة، ولم يذكر حكمها كما ذكر حكم النَّميمة بعد بابين حيث جزم بأنَّ النَّميمة مِنَ الكبائر. وقد اختُلف في حدِّ الغيبة وفي حكمها، فأمَّا حدُّها فقال الرَّاغب: هي أن يذكر الإنسان عيب غيره مِنْ غير مُحْوِج إلى ذكر ذلك، وقالَ ابنُ الأثير في «النِّهاية»: الغيبة: / أن تذكر الإنسان في غيبته بسوء وإن كان فيه.
          وقالَ النَّوويُّ في «الأذكار» تبعًا للغزاليِّ: ذكرُ المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدن الشَّخص أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خَلْقِه أو خُلُقِه أو ماله أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك ممَّا يتعلَّق به، سواء ذكرته باللَّفظ أو بالإشارة والرَّمز.
          قالَ النَّوويُّ: وممَّن يستعمل التَّعريض في ذلك كثيرٌ مِنَ الفقهاء في التَّصانيف وغيرها كقولهم: قال بعض مَنْ يدَّعي العِلم، أو بعضُ مَنْ يُنَسب إلى الصَّلاح، أو نحو ذلك ممَّا يَفهم السَّامع المراد به، وكلُّ ذلك مِنَ الغيبة، وتمسَّك مَنْ قال: إنَّها لا يُشترط فيها غيبة الشَّخص بالحديث المشهور الَّذِي أخرجه مسلم وأصحاب السُّنن عن أبي هريرة رفعه وفيه: ((ذِكْرُكَ أخَاكَ بِمَا يَكْرَهُه)) فلم يقيِّد ذلك بغيبة الشَّخص، فدلَّ على ألَّا فرق بين أن يقول ذلك في غيبته أو في حضوره، والأرجح اختصاصها بالغيبة مراعاةً لاشتقاقها، وبذلك جزم أهل اللُّغة.
          ثمَّ بسط الحافظ الكلام في حكم الغيبة، ونقل الإجماع على أنَّها مِنَ الكبائر، وقيل: مِنَ الصَّغائر، وتعقَّب هذا القول، ثمَّ قالَ: ذكر المصنِّف في الباب حديث ابنِ عبَّاسٍ وليس فيه ذكر الغيبة بل فيه (يمشي بالنَّميمة) قالَ ابنُ التِّين: إنَّما ترجم بالغيبة وذكر النَّميمة لأنَّ الجامع بينهما ذكر ما يكرهه المقول فيه بظهر الغيب. انتهى مِنَ «الفتح».
          وقالَ ابنُ عابدين بحثًا على تعريف الغيبة: قوله: حال كونه غائبًا، هذا القيد مأخوذ مِنْ مفهومها اللُّغويِّ ولم يُذكر في الحديث، والظَّاهر أنَّه لو ذكر في وجهه فهو سبٌّ وشتم، وهو حرام أيضًا بالأولى لأنَّه أبلغ في الإيذاء عن حال الغيبة. انتهى.
          وقال أيضًا: اعلم أنَّ الغيبة حرامٌ بنصِّ الكتاب العزيز، وشبِّه المغتاب بآكل لحم أخيه ميتًا إذ هو أقبحُ مِنَ الأجنبيِّ ومِنَ الحيِّ، فكما يحرُم لحمُه يحرُم عِرضُه، قال صلعم: ((كلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَام دَمُه وَمَالُه وَعِرْضُه)) رواه مسلم وغيره، فلا(1) تحلُّ إلَّا عند الضَّرورة بقدرها كهذه المواضع أي: الَّتي ذُكرت في «الدُّرِّ المختار»، كما سيأتي.
          وفي «تنبيه الغافلين» للفقيه أبي اللَّيث: الغيبة على أربعة أوجه: في وجه هي كفرٌ بأن قيل له: لا تغتب، فيقول: ليس هذا غيبة لأنَّي صادق فيه، فقد استحلَّ ما حُرِّم بالأدلَّة القطعيَّة وهو كفرٌ، إلى أن قال: وفي وجهٍ هي مباح وهو أن يغتاب معلنًا بفسقه أو صاحب بدعة، وإن اغتاب الفاسقَ ليَحْذَرَه النَّاسُ يُثاب عليه لأنَّه مِنَ النَّهي عن المنكر. انتهى.
          أقول: والإباحة لا تنافي الوجوب في بعض المواضع الآتية. انتهى.
          وفي «الدُّرِّ المختار»: وكذا لا إثم عليه لو ذكر مساوئ أخيه على وجه الاهتمام لا يكون غيبة، إنَّما الغيبة أن يذكر على وجه الغضب يريد السَّبَّ. انتهى.
          قالَ ابنُ عابدين: قوله: لا يكون غيبة لأنَّه لو بلغه لا يكرهه لأنَّه مهتمٌّ له متحزِّن ومتحسِّر عليه، لكن بشرط أن يكون صادقًا في اهتمامه وإلَّا كان مغتابًا منافقًا مرائيًا مزكِّيًا لنفسه لأنَّه شتم أخاه المسلم وأظهر خلاف ما أخفى، وأشعر النَّاس أنَّه يكره هذا الأمر لنفسه وغيره(2) وأنَّه مِنْ أهل الصَّلاح حيث لم يأتِ بصريح الغيبة، وإنَّما أتى بها في معرض الاهتمام، فقد جمع أنواعًا مِنَ القبائح، نسأل الله تعالى العصمة. انتهى.
          وقال صاحب «الفيض» بعد تعريف الغيبة: ذكر الشَّاميُّ فيها المستثنيات، وملخَّصُها يرجع عندي إلى كلمة واحدة وهي أنَّ الغيبة هي الَّتي كانت لتبريد الصَّدر والتَّلذُّذ بها وجعلها شغلًا، أمَّا إذا كان بصدد ذكر حوادث الأيَّام وصروفها فذكر فيه أشياء لا يكون مِنَ الغيبة المحظورة.
شَرُّ الوَرَى بِمَساوِي النَّاسِ مُشْتَغِلٌ                     مِثْلَ الذُّبَابِ يُرَاعِي مَوْضِعَ العِلَلِ
          انتهى.
          وسيأتي ترجمة المصنِّف بقوله: (ما يجُوز مِنِ اغتياب أهل الفساد).
          قالَ الحافظُ: قال العلماء: تُباح الغِيبة في كلِّ غَرضٍ صحيحٍ شرعًا حيث يتعيَّن طريقًا إلى الوصول إليه بها كالتَّظلُّم، والاستعانة على تغيير المنكر، والاستفتاء، والمحاكمة، والتَّحذير مِنَ الشَّرِّ، ويدخل فيه تجريح الرُّواة والشُّهود، / وممَّن تجوز غيبتهم مَنْ يتجاهر بالفِسق أو الظُّلم أو البِدعة. انتهى.


[1] في (المطبوع): ((ولا)).
[2] في (المطبوع): ((ولغيره)).