مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا

          ░46▒ باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً
          وقال الزهري: لا أرى... إلى آخره.
          ثم ساق حديث زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على أم حبيبة... الحديث.
          وفيه: عن أم حبيبة وزينب بنت جحش، وقد أخرجه (م) أيضاً واللفظ: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد...)) الحديث.
          قال البيهقي: قال بعضهم: قولها: إلا ثوب عصب. ليس بمحفوظ وقد قال الشافعي في القديم فيما لا تلبسه: في العصب من الثياب إلا عصباً غليظاً. قال: وهذا القول أقرب من الحديث.
          وذكر أبو عبد الله حديث الزهري، عن عروة، عن عائشة: المعتدة تلبس السواد. قال: هو في آخر الحديث يشبه كلام الزهري. ولابن عبد البر من حديث عبد الله بن عقبة، عن أبي الأسود، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن عاتكة بنت نعيم بن عبد الله النحام أنها جاءت رسول الله فقالت: إن ابنتها توفي زوجها واسمه المغيرة _فيما قال ابن بشكوال_ فحدت عليه فرمدت رمداً شديداً، وقد خشيت على بصرها، فهل تكتحل؟ فقال: ((لا، إنما هي أربعة أشهر وعشراً، وقد كانت المرأة منكن تحد سنة))، زاد ابن حزم بإسناد جيد، قالت: إني أخشى على عينها! قال: ((وإن انفقأت)).
          ولابن عبد البر بإسناد فيه ضعف في حديث بكير بن الأشج عن خولة، عن أمها أم خولة أنه ◙ قال لأم سلمة: ((لا تطيبي وأنت محد، ولا تمسي الحناء فإنه طيب)). وعن ابن عباس أنه كان ينهى المتوفى عنها عن الطيب والزينة. وقال مجاهد: لا تكتحل إلا من ضرورة.
          والإحداد: ترك المرأة الزينة كلها من اللباس والطيب والزينة والحلي والكحل ما دامت في عدتها؛ لأن الزينة داعية إلى الأزواج، فنهيت عن ذلك، قطعاً للذرائع؛ وحماية لحرمات الله أن تنتهك. يقال: امرأة حاد ومحد، وأصل الإحداد: المنع، ومنه سمي البواب حداداً لمنعه الداخل. والحد: العقوبة؛ لأنه ردع عن ارتكاب المعاصي.
          قال أبو العباس أحمد بن يحيى يقول: حديث المرأة على زوجها تحد، وتحد إذا تركت / الزينة فهي حاد، ويقال أيضاً: أحدت، فهي محد. وقال الفراء في مصادره: حدت المرأة حداداً. قال ابن درستويه: المعنى أنها منعت الزينة نفسها والطيب بدنها، ومنعت بذلك الخطاب خطبتها والطمع فيها كما منع حد السكين وحد الدار ما منعا.
          وحكى الكسائي عن عقيل: حديث بغير ألف. وسمي الحديد حديداً؛ للامتناع به أو لامتناعه على محاوله، ومنه تحديد النظر بمعنى امتناع تقلبه في الجهات. ويروى بالجيم، حكاه (ت) في ((شرحه))؛ حيث قال: يروى بالحاء والجيم، وبالحاء أشهر، والجيم مأخوذة من جددت الشيء إذا قطعته، فكأن المرأة انقطعت عن الزينة وما كانت عليه قبل ذلك.
          وفي ((تقويم المفسد)) لأبي حاتم: أبى الأصمعي إلا أحدت ولم يعرف حدت.
          قال ابن المنذر: حديث أم حبيبة يدل على معان: منها: تحريم إحداد المسلمات على غير أزواجهن فوق ثلاث، وإباحة إحدادهن عليهم ثلاثاً.
          ومنها: أن المأمور بالإحداد الزوجة المسلمة دون اليهودية والنصرانية وإن كانت تحت مسلم عملاً بقوله: ((تؤمن بالله واليوم الآخر)) وإن الذمية لا تخاطب بذلك.
          ومنها: الدلالة على أن المخاطب بالإحداد من الزوجات من عدتهن الشهور دون الحوامل منهن.
          وفيه دليل على أن المطلقة ثلاثاً لا إحداد عليها، ويدل عليه ظاهر الحديث، وقد قاله بعض من لقيته من أهل العلم وإن يكن في ذلك إجماع فهو مسلم له، وليس فيه إجماع، فإن الحسن البصري كان لا يرى الإحداد، وهو قول شاذ غريب.
          ومنها: وجوب الإحداد على جميع الزوجات المسلمات مدخول بهن، وغير مدخول بهن؛ لدخولهن في جملة من خوطب بالإحداد في عدة الوفاة إذا كانت بالشهور، ويدخل فيما ذكرناه الحرة تحت العبد والأمة تحت الحر والعبد، فالمكاتبة والمدبرة وأم الولد المزوجة يتوفى عنهن أزواجهن والمطلقة يطلقها زوجها طلاقاً يملك رجعتها ثم يتوفى عنها قبل انقضاء عدتها إذ أحكامها أحكام الأزواج إلى أن توفي عنها.
          وممن قال: إن على الأمة الإحداد إذا توفي عنها زوجها، مالك والثوري والكوفيون والشافعي وأبو ثور، وحكي ذلك عن ربيعة؛ لأنها داخلة في جملة الأزواج وفي عموم الأخبار، ولا أحفظ في ذلك خلافاً إلا ما ذكر عن الحسن. وأجمعوا على أن أم الولد لا إحداد عليها إذا توفي سيدها، ذكره أجمع ابن المنذر(1).
          واختلف قول مالك في الكتابية، هل يلزمها الإحداد على زوجها المسلم؟ فروى عنه أشهب أنه لا إحداد عليها، وهو قول ابن نافع والكوفيين. وروي أيضاً عن مالك أنه قال: عليها الإحداد(2). وهو قول الليث والشافعي وأبي ثور وابن حي، وحجته أن الإحداد من حق الزوج، وهو يحفظ النسب كالعدة، وتدخل الكافرة في ذلك.
          واختلف في الصغيرة المتوفى عنها، فقالت طائفة: عليها من ذلك ما على البالغ منهن. هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي عبيد وأبي ثور. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد عليها عملاً بقوله: ((لامرأة)) فعلم أن ذلك لا يلزم إلا المكلف البالغ، وإنما عليها العدة، وخالف داود فيهما كما حكاه ابن التين.
          واختلفوا في المطلقة ثلاثاً، فقالت طائفة: عليها الإحداد كالمتوفى عنها زوجها سواء. روي ذلك عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وابن سيرين والحكم، وهو قول الكوفيين وأبي ثور وأبي عبيد. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: الاحتياط أن تتقي المطلقة الزينة. قال الشافعي: ولا يتبين لي أن أوجبه.
          وقالت طائفة: لا إحداد على مطلقة، ورخصوا لها في الزينة. وروي هذا عن عطاء وربيعة، وهو قول مالك والليث / .
          قوله: (فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره) هو برفع خلوق وغيره؛ أي: دعت بصفرة، هي خلوق أو غيره. والخلوق _بفتح الخاء_: طيب مخلوط.
          قوله: (ثم مست بعارضيها) تريد الخدين، وادعى القرطبي أن أصل العوارض: الأسنان، وسميت الخدود عوارض من باب تسمية الشيء بالشيء إذا جاور، ولا يسلم له، نعم ينطلق عليه.
          قال صاحب ((الموعب)): العارض: الخد، وقال القزاز: عارض الوجه صفحته؛ أي: خده. وقد تجيء العوارض في الشعر يراد بها الأسنان، وقال اللحياني: عارضا الوجه وعروضاه: جانباه. وقال ابن سيده: العارضان: جانبا اللحية. والعارض: الخد.
          وقال الجوهري: عارضة الإنسان: صفحتا خديه. وقولهم: فلان خفيف العارضين يراد به: خفة شعر عارضيه. وقال ابن فارس: وربما أرادوا بالعوارض الأسنان، يوضحه الحديث: ((من سعادة المرء خفة عارضيه)) لأنه إذا توضأ لا يحتاج إلى معاناة الماء إلى أصوله ولا إلى المبالغة في غسله.
          قوله: (فوق ثلاث ليال)، وفي أخرى: ((ثلاثة أيام))، وفي أخرى: ((فوق ثلاث)). والمراد بهذه الليالي، ولذلك أنث العدد، وقيل: أراد الأيام بلياليها. حكاه القرطبي.
          قوله: (وعشراً) منصوب على الظرف، والعامل فيه ((تحد))، وإنما قال: ((وعشراً))، ولم يقل: وعشرة؛ لأنه أراد الليالي، وقد علم أن مع كل ليلة يومها.
          وقال المبرد: المعنى وعشر مدد، وتلك المدة يوم وليلة. وقولنا: المراد: بلياليها. هو مذهبنا ومذهب العلماء، إلا ما حكي عن يحيى ابن أبي كثير، والأوزاعي، وأبي بكر الأحمر أنها أربعة أشهر وعشر ليال، وأنها تحل في اليوم العاشر، ومذهب الجمهور لا تحل؛ حتى تدخل ليلة الحادي عشر، وذهب مالك إلى أن الحامل إذا وضعت قبل أربعة أشهر وعشر أنها تكمل الأربعة أشهر والعشر.
          قوله: (إلا على زوج) مقتضاه: كل زوج، سواء بعد الدخول أو قبله، وكذا يدخل فيه كل امرأة كبيرة أو صغيرة أو أمة كما سلف، وفي دخول الصغيرة تحت اللفظ المذكور نظر، ولا تدخل الكتابية كما سلف، ولا المستولدة.
          والحفش: _بكسر الحاء المهملة، وسكون الفاء ثم شين معجمة_ بيت صغير رديء خرب حقير قريب السمك، والخش الرديء، أو المظلة الدنية.
          قال ابن حبيب: وأهل اللغة على أنه البيت الصغير. وفسره مالك بأنه البيت الرديء، وعن الشافعي: هو بيت ذليل قريب السمك، سمي به لضيقه، والتحفش: الانضمام والاجتماع.
          وقال أبو عبيد: الحفش الدرج، وجمعه: أحفاش، يشبه البيت الصغير، وعبارة المازري أنه خص حقير.
          ومعنى تفتض به _بالفاء والضاد المعجمة_ تدلك جسمها. وقال مطرف وابن الماجشون: تمسح به فرجها وجسدها ظاهره وباطنه.
          وأنكره بعضهم وقال: كيف تمسح فرجها بالحمار؟! وقال الأخفش: معناه: تتنظف وتنقى من الدرن تشبيهاً لها بالفضة في نقائها وبياضها. وقيل: هو من فضضت الشيء: كسرته وفرقته. ومنه قوله: {لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] والمعنى: أنها تكسر ما كانت فيه بتلك الدار، وكانت المرأة في الجاهلية تفتض بالدابة ثم تغتسل، وتتنظف ثم ترمي ببعرة من بعر الغنم وراء ظهرها، ويكون ذلك إحلالاً لها.
          ومعنى: رميها بالبعرة: إعلام لها أن صبرها عاماً أهون عليها من رميها بالبعرة، وإنما منعت المعتدة في الوفاة من الزينة ولم تمنع منه معتدة الطلاق _كما نبه عليه المازري_ لأن الزينة والطيب يدعوان إلى النكاح ويوقعان فيه، فنهى عنها؛ لكون الامتناع فيها زاجراً عن النكاح؛ لما كان الزوج في الوفاة معدوماً لا يحامي عن نفسه ولا يزجر زوجته، بخلاف المطلق الحي فإنه يحتفظ على مطلقته؛ لأجل نسبه، فاستغنى بوجوده / عن زاجر آخر.
          قال مالك _كما حكاه في ((الاستذكار))_: تحد امرأة المفقود في عدتها، وإنما كانت عدة الوفاة بما ذكر؛ لأن غالب الحمل يتبين بحركة في تلك المدة؛ لأن النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً ثم تصير علقة كذلك ثم مضغة كذلك ثم تنفخ فيه الروح بعد فتظهر في العشر الزائد بعد الأربعة أشهر على ما في حديث ابن مسعود.
          قوله: (اشتكت عينها) يجوز ضم النون على أنها مشتكية، وفتحها على أن في اشتكت ضمير الفاعل، وهي الحادة، ورجح الأول بما وقع في بعض الروايات: عيناها. فإن اضطرت إليه فقيل: تكحله ليلاً وتمسحه نهاراً؛ أخذاً بحديث أم سلمة، هو قول النخعي وعطاء وأبي حنيفة والشافعي ومالك، قوله ◙ لا يحتمل أنه نهي تنزيه أو تأول على أنه لم يتحقق الخوف على عينها.
          قوله: (إنما هي أربعة أشهر وعشر) تقليل للمدة ونهوض للصبر عما منعت منه، ويفيد هذا الحصر لمن يقول إن مدة الحامل لا تزيد على هذه المدة، خلافاً لما سلف عن مالك.
          وفيه: تصريح نسخ الاعتداد لسنة، المذكور في سورة البقرة: {مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ} [البقرة:240] ولما في هذا الحديث: ((حتى تمر بها سنة)).
          قال ابن عبد البر: وهذا من الناسخ والمنسوخ الذي لم يختلف العلماء فيه والمجمع عليه.
          قوله: (ترمي بالبعرة) يعني: رمت بالعدة وخرجت كانفصالها من هذه البعرة ورميها بها، وقيل: إشارة إلى ما فعلته وصبرت عليه من الاعتداد سنة، ولبسها شر ثيابها ونزولها الحفش تصغير لحق بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقه من المراعاة، كما يهون الرمي بالبعرة. وعبارة مطرف وابن الماجشون: ترمي ببعرة من بعر الغنم أو الإبل فترمي بها أمامها فيكون ذلك إحلالها.
          وقال بعضهم: ترمي من عرض من كلب أو غيره تري من حضرها أن مقامها حولاً بعد زوجها على تلك الحال أهون عليها من بعرة ترمي بها كلباً أو غيره.
          قوله: (تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير)(3) هو بدل من ((دابة))، وكلها دواب؛ لأنها تدب؛ أي: تمشي، وهذه تسمية لغوية.
          قوله: (قالت زينب: دخلت على أم حبيبة...)) الحديث. لمسلم في حديث بنت أم سلمة قالت: توفي حميم لأم حبيبة، كذا في رواية الجلودي وغيره، وهو الصواب. ووقع في نسخة ابن الحذاء: توفي حميم لأم سلمة. مكان أم حبيبة.
          وأما ما روي من أنه ◙ رخص للمرأة أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، وعلى أبيها سبعة أيام، وعلى من سواه ثلاثة أيام، فغير صحيح؛ لقصة أم حبيبة السالفة أنها تطيبت بعد أبيها بثلاث.
          وقول الزهري الذي بدأ به (خ) هو قول مالك والشافعي خلافاً لأبي حنيفة، دليلنا ما ذكره الزهري؛ وذلك أن الإحداد صفة العدة فتجب كوجوبها؛ ولأنه قال: أفنكحلها، بالنون، فلو لم تكن طفلة لم يقل ذلك، ولكانت تكحل نفسها.
          وزينب بنت أم سلمة: راوية الأحاديث الثلاثة في الباب، أبوها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد، المخزومية، ربيبة النبي صلعم، قيل: كان اسمها برة، لها صحبة، تزوجها عبد الله بن زمعة بن الأسود، قتل ولدها منه يوم الحرة. روت عن رسول الله صلعم وعن أمها وعدة، روى عنها عدة عروة وأبو سلمة، توفيت سنة ثلاث وسبعين.
          وأما ابن التين فنقل عن بعض العلماء أن زينب هذه لا يعلم لها رواية عن رسول الله صلعم، ويروي أخوها عن رسول الله وهو عجيب منه فاحذره.
          وأم حبيبة: أم المؤمنين، اسمها رملة، هاجرت إلى الحبشة، فهلك زوجها، فزوجها النجاشي من رسول الله، وأمها صفية بنت العاص بن أمية، روى عنها أخواها معاوية وعنبسة وعروة، توفيت سنة أربع وأربعين / .


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قلت: الإحداد هو من توابع العدة ولوازمها للمسلمة فحيث يجب على الكتابية العدة للمسلم فالقياس أن يحد أيضاً؟ قلت: العدة لازمة لأجل ظهور براءة رحمها من ماء الزوج ولئلا يختلط النسب، وأما الإحداد فلا فائدة عائدة إلى الزوج وورثته)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: الإحداد لا تعلق له بالنسب، وإنما العدة بحفظ النسب كما ذكرناه على الحاشية)).
[3] في هامش المخطوط: ((أقول: الطير ليس دابة، وإنه في عرف اللغة ولا غيره، قال تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ} والواو تقتضي المغايرة)).