مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب من أجاز طلاق الثلاث

          ░4▒ باب من أجاز طلاق الثلاث لقوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ}الآية [البقرة:229]
          كأن (خ) أراد بأن الطلقة الثالثة هي قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229].
          وقد جاء كذلك مفسراً في حديث أنس: قال رجل للنبي صلعم: ((إني أسمع الله يقول: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] فأين الثالثة؟ قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229])) رواه الدارقطني، وصوب إرساله.
          وقد طلق عويمر العجلاني بحضرته ثلاثاً ولم ينكر عليه صدور هذا اللفظ، كما أورده في الباب، وإن كان وقع بعد اللعان وبانت.
          ثم قال (خ): وقال ابن الزبير في مريض طلق... إلى آخره. وهذا أخرجه أبو عبيد، عن يحيى القطان، ثم نقل (خ) عن الشعبي أنها ترثه.
          ثم ساق (خ) في الباب حديث سهل بن سعد الساعدي. وحديث عائشة في امرأة رفاعة.. وسلف في الشهادات(1).
          والمقصود منه هنا: فطلقني فبت طلاقي. وحديثها أيضاً: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً... الحديث.
          وساق (خ) هذه الأحاديث عقب هذه الترجمة؛ للرد على المخالف، وفي الأول: إرسال الثلاث دفعة، وفي الثاني: إرسال البتات، وفي الثالث: إرسال الثلاث من غير بيان لذكر الكيفية، هل هن مجتمعات أو مفترقات؟ ولما قام عنده على تساوي الصور كفاه الدليل في بعضها دليلاً على الجمع، كما نبه عليه ابن التين، وكأنه أثبت حكم الأصل بالنص، وألحق الفرع بقياس نفي الفارق.
          قلت: لكن في (خ) في باب التبسم والضحك من كتاب الأدب: أن رفاعة طلقني آخر ثلاث، فبان به أنها كانت مفترقات، ولم يكن في كلمة، فلا حجة فيه هنا. وكذلك ما ذكره عن ابن الزبير، فمحتمل؛ أن يكون في كلمة أو أكثر، أو أن يكون خلعاً.
          واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع طلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، ومن خالف فيه فهو شاذ مخالف لأهل السنة، وإنما تعلق به أهل البدع ومن لا يلتفت إليه؛ لشذوذه عن الجماعة التي لا يجوز عليها التواطؤ على تحريف الكتاب والسنة، وإنما يروى الخلاف في ذلك عن السلف: الحجاج بن أرطأة، ومحمد بن إسحاق، وقد أسلفنا ذلك.
          قال أبو يوسف القاضي: كان الحجاج بن أرطأة يقول: ليس طلاق الثلاث بشيء. وكان ابن إسحاق يقول: يرد الثلاث إلى واحدة.
          وحجة الفقهاء حديث الباب أنه طلقها ثلاثاً قبل أن يأمره الشارع بذلك، وقبل أن يخبره أنها تطلق عليه باللعان(2)، ولو كان ذلك محظوراً عليه لنهاه عنه، وأعلمه أن إيقاع الثلاث محرم ومعصية، فصح أن إيقاع الثلاث مباح، ولولا ذلك لم يقره.
          اختلف في قول الرجل: أنت طالق البتة. فذكر ابن المنذر عن عمر وسعيد بن جبير أنها واحدة. وقال عطاء والنخعي: يدين، فإن / أراد واحدة فهي واحدة، وإن أراد ثلاثاً فثلاث. وهو قول أبي حنيفة والشافعي وقالت طائفة في البتة: هي ثلاث. وروي ذلك عن علي وابن عمر وسعيد بن المسيب وعروة والزهري وابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي وأبي عبيد.
          واختلف في طلاق المريض يموت في مرضه، وحاصل الخلاف فيه أن فرقة قالت: ترثه ما دامت في العدة، روي عن عثمان أنه ورث امرأة عبد الرحمن بن عوف منه، وكانت في العدة، وبه قال النخعي والشعبي وابن شبرمة وابن سيرين وعروة، وهو قول الثوري والكوفيين والأوزاعي، وأحد قولي الشافعي. وأن فرقة قالت: ترثه وإن تزوجت، هذا قول ربيعة والليث ومالك _وهو الصحيح_ عن عثمان.
          وأن فرقة قالت: لا ترث مبتوتة بحال، وإن مات في العدة، كقول ابن الزبير، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال أبو ثور وأهل الظاهر.
          وقيل: العسل، يذكر ويؤنث فمن صغره مؤنثاً قال: عسيلة، كهنيدة في هند، وقيل: أراد نطفة من العسل، وقيل: على معنى النطفة، شبه اللذة بالذوق، واستعارة لها.
          وفي حديث رفاعة أن المطلقة ثلاثاً لا تحل لمطلقها إلا بنكاح فيه جماع. وهو مفسر لقوله تعالى: {حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وهو من التفسير المسند، وذلك أن القرآن كله إذا ذكر فيه النكاح، أريد به العقد لا الوطء، إلا هنا، وإلا في قوله: {الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} [النور:3] على قول، والسنة بينته بقوله: ((حتى تذوقي عسيلته)) وهي الوطء.
          وانفرد ابن المسيب فاكتفى بالعقد، كما أسنده سعيد بن منصور في ((سننه)) قوله: ولا نعلم أحداً وافقه إلا طائفة من الخوارج، ولا التفات إليهم، ولعله لم يبلغه الحديث. وقيل: إنه رجع عنه، حكاه في ((القنية)) للزاهدي. قال: ولو قضى به قاض لا ينفذ قضاؤه، فإن أفتى به أحد عزر.
          حكى عن أهل الحجاز أنهم يرون النكاح العقد دون الفعل، ولا ينكرونه في الفعل، ويحتجون بقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] ويكون هو الجماع. وهو الأصل كناية، وهي تقع عن هذا الباب كثيراً، والأصل ما ذكرنا، قال ◙: ((أنا من نكاح لا من سفاح)).
          ومقابل قول سعيد في الغرابة قول الحسن البصري: لا تحل حتى يطأها الثاني وطئاً فيه إنزال، وزعم أنه معنى العسيلة، وخالفه سائر الفقهاء، فاكتفوا بالإفضاء(3) كما في سائر الأحكام.
          وأغرب ابن المنذر فقال: إذا أتاها نائمة أو مغمى عليها لا تشعر لا تحل للأول؛ حتى يذوقا جميعاً العسيلة، إذ غير جائز أن يسوي الشارع بينهما في ذوقهما. وتحل بأن يذوقها أحدهما، وهذا قول علي وابن عباس وجابر وعائشة وابن عمر، وهو قول جماعة العلماء، ولا خلاف في ذلك إلا ما روي عن ابن المسيب، وهو قوله في هذا الحديث: ((أو يذوق عسيلتك))، لا يوجب ذوق أحدهما لها دون صاحبه، وأو هنا بمعنى: الواو، وذلك مشهور في اللغة، وقد بين ذلك رواية من روى: ((وتذوق)) بالواو. كما ذكره في الباب.
          واختلف في عقد نكاح المحلل، فقال مالك: لا يحلها إلا نكاح رغبة، فإن قصد التحليل لم يحلها، سواء علم بذلك الزوجان أو لم يعلما، ويفسخ قبل الدخول وبعده / ، وهو قول الليث وسفيان والأوزاعي وأحمد. وقال أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: النكاح جائز، وله أن يقيم على نكاحه أولاً، وهو قول عطاء والحكم.
          وقال القاسم وسالم وعروة والشعبي: لا بأس أن يتزوجها ليحلها، إذا لم يعلم بذلك الزوجان، وهو مأجور بذلك، وهو قول ربيعة ويحيى بن سعيد، حجة مالك الأحاديث الواردة في لعنه، منها حديث ابن مسعود: ((لعن رسول الله صلعم المحل والمحلل له)) حديث صحيح، أخرجه (ن) (ت)، وقال: حسن صحيح.
          وفيه أيضاً: عن عقبة بن عامر وأبي هريرة وجابر وابن عباس ♥.
          وعن عبد الرزاق، عن الثوري، عن عبد الله بن شريك العامري: سمعت ابن عمر يسأل عمن طلق امرأته ثم ندم، فأراد رجل أن يتزوجها يحللها له. فقال ابن عمر: كلاهما زان ولو مكثا عشرين سنة.
          قلت: وصح عن قتادة وإبراهيم والحسن أنهم قالوا: إن نوى واحد من الناكح أو المنكح والمرأة التحليل فلا يصلح، فإن طلقها فلا تحل للذي طلقها، ويفرق بينهما إذا كان نكاحه على وجه التحليل.
          وعن سعيد بن جبير وابن المسيب وطاوس: المتحلل ملعون.
          وعن عباد بن منصور: جاء رجل إلى الحسن فقال: إن رجلاً من قومي طلق امرأته ثلاثاً، فندم وندمت، فأردت أن أنطلق فأتزوجها لتحل له. فقال له الحسن: اتق الله ولا تكن مسماراً لحدود الله عز وجل، ولا بدعة عندنا في جمع الثلاث خلافاً له.
          وأجاز ابن مسعود تفريقها على الإقراء، وبه أخذ أبو حنيفة وأشهب، وإذا أوقع الثلاث بكلمة وقعت، خلافاً لداود ولبعضهم حيث قال: تقع واحدة. وعند مالك في طلاق الفار في مرض الموت: ترث وإن تزوجت أزواجاً، وولدت أولاداً خلافاً للشافعي.
          وقول عمر: (أرأيت رجلاً وجد مع امرأته) إلى آخره دال على وجوب قتل من قتل رجلاً، وادعى أنه وجده مع امرأته، وبه قال عامة الفقهاء.
          قوله: (قد أنزل فيك وفي صاحبتك) دال على أنه أول لعان نزل فيه ذلك، وقد سلف الخلاف فيه.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: امرأة رفاعة اسمها تميمة بنت وهب بضم تاؤها وتفتح، وعن عائشة: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً فتزوجت، الزوج المطلق هو رفاعة بن سمؤال القرظي والذي تزوجته هو عبد الرحمن بن الزبير)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: لا يتم الاستدلال بطلاق التلاعن لأنه يلزم أن يكون جائزاً؛ لأن للملاعن بعد اللعان أن يطلق ثلاثاً، وهذا لا يجوز؛ لأن الفراق يحصل باللعان، وإنما لم ينهه عن ذلك لأنه لا فائدة له في ذلك فإنه قد حصلت الفرقة بينهما ولو كان له في ذلك فائدة لنهاه عن ذلك)).
[3] في المخطوط: ((بالاكتفاء)) ولعل الصواب ما أثبتناه.