مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب قول الله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر}

          ░21▒ باب قول الله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ}الآية [البقرة:226].
          ساق فيه عن حميد، عن أنس أنه سمعه يقول: آلى رسول الله صلعم... الحديث.
          وعن ابن عمر أنه كان يقول في الإيلاء...إلى آخره، وقال لي إسماعيل: حدثني مالك... إلى آخره.
          هذا باب الإيلاء، وقد ترجم به كذلك ابن بطال في ((شرحه))، وهو في اللغة: الحلف يقال: آلى يؤلي أليةً وإيلاء: حلف، وقال ابن عباس: كل يمين منعته جماعاً فهي إيلاء. قال ابن المنذر: وهو قول كل من أحفظ عنه من أهل العلم، واختلف في الإيلاء / المذكور [في] القرآن كما سيأتي. وحديث إيلائه سلف مطولاً من حديث ابن عباس، وليس هو مما عقد له الباب.
          وقوله: (وقال لي إسماعيل) هو مما أخذه عنه في حال المذاكرة كما سلف غير مرة. وقد أخرجه في ((الموطأ)) من رواية يحيى وغيره عن مالك.
          وفي ((الغرائب)) للدارقطني من حديث بكر بن الشرود قال: وتفرد به عن مالك _وليس بالقوي_ عن نافع، عن ابن عمر أنه ◙ آلى من نسائه، فدخل على عائشة فقالت: إنما كنت أقسمت شهراً فقال: ((إذا مضى من الشهر تسع وعشرون يوماً فقد مضى الشهر)). وما ذكره عن عثمان فمن بعده بصيغة تمريض أسانيدهم جيدة، أخرجها ابن أبي شيبة.
          وفي (ق) من حديث عكرمة بن عبد الرحمن، عن أم سلمة أنه ◙ آلى من بعض نسائه شهراً، فلما كان تسعة وعشرين راح أو غدا، فقيل: يا رسول الله، إنما مضى تسع وعشرون؛ فقال. ((الشهر تسع وعشرون))، وقراءة: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة:226] قالا: (يقسمون) أي: على الامتناع من نسائهم؛ لأنه لا يقال: آليت من كذا، إنما يقال: آليت على كذا، وآليت لأفعلن كذا، لكنه لما كان معناه: آلى ليمتنعن من امرأته، وكثر استعماله، حذف ذلك لدلالة الكلام عليه. وقيل: آلى من امرأته، حكى هذا الفضل بن سلمة عن بعض النحاة فيما ذكره الباجي في ((منتقاه)) عنه. والفراء قال: إن من هنا بمعنى على، معناه: يؤلون على نسائهم.
          واختلف في الإيلاء المذكور في الآية، قال ابن المنذر: فروي عن ابن عباس: لا يكون مولياً حتى يحلف ألا يمسها أبداً. وقالت طائفة: الإيلاء إنما هو آلى؛ حلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر. هذا قول مالك، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور، فإن حلف على أربعة أشهر فما دونها لم يكن مولياً، وكان هذا عندهم يميناً محضاً، لو وطئ في هذه اليمين حنث ولزمته الكفارة. وإن لم يطأ حتى انقضت المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان.
          وقال الثوري، والكوفيون: هو أن يحلف على أربعة أشهر فصاعداً، وهو قول عطاء. وقالت طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوماً أو أقل أو أكثر ثم لم يطأها أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء، روي هذا عن ابن مسعود، والنخعي، وابن أبي ليلى، والحكم، وبه قال إسحاق.
          قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول أكثر أهل العلم، وقالوا: لا يكون الإيلاء أقل من أربعة أشهر. قال ابن عباس: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر، فوقت لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء.
          قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه العلم أن الفيء هو الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر فيجزئه فيئه بلسانه وقلبه. وقال بعضهم: إذا أشهد على فيئه في حال العذر أجزأه، وخالف الجماعة سعيد بن جبير؛ فقال: الفيء الجماع، لا عذر له إلا أن يجامع وإن كان في سفر أو بحر.
          وأوجب أكثر أهل العلم الكفارة عليه إذا فاء بجماع امرأته، روي هذا عن ابن عباس، وزيد بن ثابت، وهو قول النخعي، وابن سيرين، ومالك والثوري، والكوفيين، والشافعي، وعامة الفقهاء. وقالت طائفة: إذا فاء فلا كفارة عليه، هذا قول الحسن. وقال إسحاق وابن راهويه: قال بعض أهل التأويل في قوله: {فَإِنْ فَآؤُوا}الآية [البقرة:226] يعني: اليمين الذي حنثوا فيها، وهو مذهب في الأيمان لبعض التابعين فيمن حلف على / بر أو تقوى أو باب من الخير أن لا يفعله، فإنه يفعله ولا كفارة عليه، وهو ضعيف ترده السنة الثابتة عن رسول الله صلعم: ((فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير)).
          وما ذكره (خ) عن ابن عمر أن المولي يوقف حتى يطلق، وذكره عن اثني عشر رجلاً من الصحابة، وقال سليمان بن يسار: كان تسعة عشر رجلاً من أصحاب محمد صلعم يوقفون في الإيلاء. قال مالك: وذلك الأمر عندنا، وبه قال الليث، والشافعي، وأحمد وإسحاق، وأبو ثور. فإن طلق فهي واحدة رجعية، إلا أن مالكاً قال: لا تصح رجعته حتى يطأ في العدة، ولا أعلم أحداً قاله غيره.
          وقالت طائفة: إذا مضت للمولي أربعة أشهر بانت منه امرأته دون توقف بطلقة بائنة لا يملك فيها الرجعة. وقالت طائفة: هي طلقة يملك فيها الرجعة إذا مضت الأربعة الأشهر. روي عن ابن المسيب.
          قال القاضي بكر في قوله: {فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة:226]: المغفرة والرحمة لا يكونان إلا بعد ذنب، والله تعالى أباح الأربعة أشهر فيها فيئه بعد ذلك، وهي المدة التي يغفر له بتأخيرها. وقوله: {فَإِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:227] يدل على أنه لا يسمع إلا ما نطق به.
          قال ابن حزم: ومن حلف في ذلك بطلاق، أو عتق، أو صدقة، أو مشي أو غير ذلك فليس مولياً وعليه الأدب؛ لأنه حلف بما لا يجوز الحلف به؛ لما صح عن رسول الله: ((من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله)).
          وقال أبو حنيفة: إن حلف بطلاق أو عتاق أو حج أو عمرة أو صيام فهو إيلاء، فإن حلف بنذر صلاة، أو بأن يطوف أسبوعاً، أو بأن يسبح مائة مرة فليس مولياً. ورأى قوم أن الهجرة بلا يمين له حكم الإيلاء.
          قال ابن حزم: والحر والعبد في الإيلاء كل واحد منهما من زوجته الحرة أو الأمة المسلمة أو الذمية الكبيرة أو الصغيرة سواء في كل ما ذكرناه؛ لأن الله تعالى عم ولم يخص، وما كان ربك نسياً.
          وروينا عن عمر ولم يصح أنه قال: إيلاء العبد شهران. وقال أحمد فيما حكاه عنه الخلال في ((علله)): يروى عن الزهري أنه كان يقول: إيلاء العبد شهران، ولا أعلمه عن أحد غير الزهري. قال ابن حزم: وصح عن عطاء أنه قال: لا إيلاء للعبد دون سيده، وهو شهران، وبه يقول الأوزاعي، والليث، ومالك، وإسحاق. وقالت طائفة: الحكم في ذلك للنساء؛ فإن كانت حرة فإيلاء زوجها الحر والعبد عنها أربعة أشهر؛ وإن كانت أمة فإيلاء زوجها الحر أو العبد عنها شهران، وهو قول إبراهيم وقتادة والحسن والحكم والشعبي وحماد والضحاك والثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وقالت طائفة: إيلاء الحر والعبد من الزوجة الحرة والأمة سواء، وهو أربعة أشهر، وهو قول الشافعي وأحمد وأبي ثور وأبي سليمان وأصحابهم.
          قال: ومن آلى من أربع نسوة له بيمين واحدة وقف لهن كلهن من حين يحلف، فإن فاء إلى واحدة سقط حكمها وبقي حكم البواقي، فلا يزال يوقف لمن لم يفئ إليها حتى يفيء أو يطلق، وليس عليه في كل ذلك إلا كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة على أشياء متغايرة، ولكل واحدة حكمها، وهو مول من كل واحدة منهن، ومن آلى من أمته فلا توقيف عليه؛ لأن الله قال: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاَقَ} [البقرة:227] فصح أن حكم الإيلاء إنما هو فيمن يلزمه فيها الفيئة والطلاق، وليس في المملوكة طلاق.