مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون

          ░11▒ باب الطلاق في الإغلاق
          وقال النبي صلعم للذي أقر على نفسه: ((أبك جنون؟))، وقال علي: بقر حمزة خواصر شارفي... إلى آخره.
          وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق. وقال ابن عباس: طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس. وقال عطاء: إذا بدا بالطلاق فله شرطه. وقال نافع: طلق رجل امرأته البتة... إلى آخره.
          أصل الإغلاق عند العلماء: الإكراه. قال أبو عبيد: الإغلاق: التضييق، فإذا ضيق على المكره، وشدد عليه حتى طلق، لم يقع حكم طلاقه، فكأنه لم يطلق. وفي (د) (ق) من حديث عائشة: أن النبي صلعم قال: ((لا طلاق ولا عتاق في غلاق)). وأخرجه الحاكم في ((مستدركه)) وقال: صحيح على شرط (م)، وله متابع، فذكره، وقال غيره: الإغلاق: الإكراه، والمحفوظ: إغلاق، كما هو لفظ (ق) والحاكم. والمكره: مغلق عليه في أمره، ومضيق عليه في تصرفه، كما يغلق الباب على الإنسان.
          وقال في ((المحكم)): احتد فلان فنشب في حدته وغلق، وفي ((الجامع)): غلق إذا غضب غضباً شديداً. وقيل: معناه: لا تغلق التطليقتان في دفعة واحدة حتى لا يبقى منها شيء، لكن يطلق طلاق السنة. ولما ذكر الفارسي في ((مجمع الغرائب)) قول من قال: الإغلاق: الغضب. قال: إنه غلط؛ لأن أكثر طلاق الناس في حال الغضب، إنما هو الإكراه.
          وقال ابن المرابط: الإغلاق: حرج النفس، وليس يقطع على أن مرتكبه فارق عقله حتى صار مجنوناً، فيدعي أنه كان في غير عقله، ولو جاز هذا لجاز لكل واحد من خلق الله، ممن يجوز عليه الحرج، أن يدعي في كل ما جناه أنها كانت في حال إغلاق، فتسقط عنه الحدود، وتصير الحدود خاصة لا عامة لغير الجرح. وقد ترجم عليه (ق): باب المكره والناسي. و(د): باب الطلاق على الغيظ. وكأن (خ) يرى أن الإغلاق غير الإكراه، ولهذا غاير بينهما.
          واختلف في طلاق المكره، ومحل الخوض فيه كتاب الإكراه. وفيه قولان: أحدهما: أنه لازم، قاله الكوفيون. والثاني: مقابله، قاله مالك والأوزاعي والشافعي.
          احتج على الأول بحديث الباب: ((الأعمال بالنية)) وبحديث ابن عباس الثابت على شرط الصحيحين: أن النبي صلعم قال: ((وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) أخرجه (ق)، وصححه ابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين. ورواه الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس مرفوعاً بلفظ: ((تجاوز الله لأمتي)) إلى آخره.
          واختلف في ضابط الإكراه، وستعلمه إن شاء الله في موضعه. وقال شريح: القيد كره، والوعيد كره، وقال أحمد: الكره إذا كان القتل أو الضرب الشديد، ولا يشترط على الأصح عند أصحابنا أن ينوي التورية، كما لو نوى طلاقاً عن وثاق.
          وفي ((مصنف ابن أبي شيبة)): أن الشعبي كان يرى طلاق المكره جائزاً، وكذا قاله إبراهيم وأبو قلابة، وإسنادهما جيد. قال ابن حزم: وصح أيضاً عن الزهري وقتادة وسعيد بن جبير، وبه يأخذ أبو حنيفة وأصحابه، واحتجوا بآثار منها: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة)) وهي أخبار موضوعة لأنها لا ذكر فيها للمكره.
          ويحيى عن أبي بردة، قال ◙: ((ما بال رجال يلعبون بحدود الله؟ يقول أحدهم: طلقت، راجعت)). وهذا مرسل، ولا حجة في مرسل إنما رواه الحسن أنه ◙ قال: ((من طلق لاعباً، وأعتق لاعباً، فقد جاز)) ولا حجة في مرسل، وليس فيهما طلاق المكره.
          قلت: أما حديث: ((ثلاث هزلهن جد)) فأخرجه (د) (ق) (ت) وقال: حسن غريب. والحاكم في ((مستدركه)) وقال: صحيح الإسناد / ، قال (ت): والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة وغيرهم. ورد ابن الجوزي بعطاء الراوي عن ابن ماهك، عن أبي هريرة وقال: هو ابن عجلان، وهو متروك الحديث، وهو من أوهامه، فإنما هو ابن أبي رباح، كما نسبه (ت) وغيره.
          وأما من لم يره شيئاً فعلي ابن أبي طالب، وابن عمر، وابن الزبير، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء، والحسن _والسند إليهم لا بأس به_ وابن عباس وعمر بن الخطاب والضحاك.
          وفي ((المحلى)): سند قول ابن عباس صحيح، قال: وصح أنها عن طاوس وأبي الشعثاء جابر بن يزيد، قال: وهو قول مالك والأوزاعي والحسن بن علي والشافعي وابن سليمان وأصحابهم.
          قال ابن حزم: وثم قول آخر رويناه عن الشعبي، وهو إن أكرهه اللصوص لم يلزمه، وإن أكرهه السلطان لزمه. ورابع رويناه عن إبراهيم أنه قال: إن أكره ظلماً فورى شيئاً إلى شيء آخر لم يلزمه، فإن لم يور لزمه، ولا ينتفع الظالم بالتورية، وهو قول سفيان. قال ابن حزم: والصحيح أن كل عمل بلا نية باطل لا يعتد به، وطلاق المكره عمل بلا نية فهو مكره باطل، وإنما هو حاك لما أمر بقوله فقط، ولا طلاق على من حكى كلاماً لم يعتقده.
          ومما يبعد على الحنفيين من التناقض أنهم يجيزون طلاق المكره، ونكاحه، وإنكاحه، ورجعته، وعتقه، ولا يجيزون بيعه، ولا ابتياعه، ولا هبته ولا إقراره.
          وأما قوله: ((إن الله تجاوز عن أمتي...الحديث)) فزعم الحنفيون أن ذلك في الإشراك خاصة؛ لأن القوم كانوا حديثي عهد بالكفر في دار كانت دار كفر، فكان المشركون إذا قدروا عليهم استكرهوهم على الإقرار بالكفر، كفعلهم بعمار وغيره، وفي ذلك نزل: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ}الآية [النحل:106] أو ربما سهواً، فتكلموا بما جرت عليه عادتهم قبل الإسلام، وربما أخطأوا فتكلموا بذلك، فتجاوز الله عن ذلك؛ لأنهم كانوا غير محتاجين ولا قاصدين له.
          وقد أجمعوا أن من نسي أن تكون له زوجة، فقصد إليها فطلقها، أن طلاقها واقع، ولم يبطلوا طلاقه بسهوه، ولم يدخل هذا السهو في السهو المعفو عنه، وكذلك الإكراه.
          قوله: (والسكران) اختلف في طلاقه على قولين:
          1- لا يقع طلاقه، وممن قال به عثمان بن عفان وجابر بن زيد وعطاء وطاوس وعكرمة والقاسم، وعمر بن عبد العزيز، ذكره ابن أبي شيبة بأسانيده. زاد ابن المنذر: ابن عباس وربيعة والليث وإسحاق والمزني وأبو ثور. واختاره الطحاوي وقال: أجمع الفقهاء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه بسكره كالموسوس، ولا يختلفون أن من شرب الثبج، فذهب عقله، أن طلاقه غير جائز، وكذلك من سكر من الشراب.
          2- يقع، قاله مجاهد ومحمد والحسن وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والنخعي وميمون بن مهران وحميد بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار والزهري والشعبي والحكم، والإسناد إليهم جيد. وروي أيضاً عن عمر وشريح ومعاوية بن أبي سفيان وسالم بن عبد الله والأوزاعي والثوري، وهو قول مالك، وأظهر قولي الشافعي، فهؤلاء أحد وعشرون نفساً، وألزمه مالك الطلاق والقود من الجراح من القتل، ولم يلزمه النكاح ولا البيع.
          وقال الكوفيون: أقوال السكران وعقوده كلها ثابتة، كفعل الصاحي إلا الردة، فإنه إذا ارتد لا تبين منه امرأته استحساناً. وقال أبو يوسف: يكون مرتداً في حال كفره، وهو قول الشافعي إلا أنا لا نقتله في حال كفره، ولا نستتيبه.
          قال المهلب: واستدلال (خ) بحديث حمزة _وقد سلف مسنداً في البيوع_ غير جيد؛ لأن الخمر كانت يومئذ مباحة، فلذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحال. وبسبب القصة كان تحريم الخمر، وليس يجب أن يحكم بما كان قبل تحريم الخمر بما كان / بعد تحريمها؛ لاختلاف الحكم في ذلك. قلت: الإسكار ليس مباحاً إذ ذاك كما قاله أهل الأصول.
          قوله: (ثمل) أي: سكران. واحتج من أوقع طلاق السكران، وفرقوا بينه وبين المجنون. قال عطاء: ليس السكران كالمغلوب على عقله؛ لأن السكران أتى بما أتى وهو يعلم أنه يقول ما لا يصلح، قال غيره: ألا ترى أن المجنون لا يقضي ما فاته من صلاته في حال جنونه، بخلاف السكران، فافترقا(1).
          وذكر ابن المنذر أن بعض أهل العلم رد هذا القول، وقال: ليس في احتجاج من احتج أن الصلاة تلزمه _بخلاف المجنون_ حجة؛ لأن الصلاة قد تلزم النائم، ولو طلق في حال نومه فلا وقوع كالمجنون. وفي قولهم: إن السكران إذا ارتد ولم يستتب في حال سكره، ولم يقتل، دليل على أن لا حكم لقوله. وفي حقيقة السكر عندنا خلاف محله الفروع.
          وأثر عثمان أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد. ومعنى قوله: (أبك جنون؟) يعني: في بعض أوقاتك، كما قاله المهلب؛ إذ لو أراد جنون الدهر كله ما وثق بقوله أن به جنوناً، وإنما معناه: أبك جنون في غير هذا الوقت؟ فيكون قوله: إنك قد زنيت في وقت ذلك الجنون، وإنما طلب ◙ شبهة يدرأ عنه الحد بها؛ لأن المجنون إنما يحمل أمره على فقد العقل وفساد المقاصد في وقت جنونه. والسكران أصله العقل، والسكر إنما هو طار على عقله، فما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على أصل عقله، حتى ينتهي إلى فقدان العقل.
          وأثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد جيد، وقول نافع أخرج [معناه] ابن أبي شيبة، عن عبدة. وكذا أثر إبراهيم.
          وقول الزهري: ((ما أنت بامرأتي)) أخرجه أيضاً بإسناد جيد، عن عبد الأعلى، عن معمر، عنه. وقول علي ذكره بصيغة جزم، وهو حديث ثابت، أخرجه أصحاب السنن الأربعة مرفوعاً، وحسنه (ت) وقال: حسن غريب من هذا الوجه، ولا نعلم للحسن سماعاً من علي. وصححه ابن حبان والحاكم، وأخرجه (د) (ن) (ق) من حديث عائشة مرفوعاً أيضاً.
          وقال ابن المنذر: إنه ثابت، قال: واختلفوا في طلاق الصبي ما لم يبلغ، وأكثرهم: لا يجوز، وأجازه قوم.
          ذكر أبو يعقوب موسى الحاصي في ((فتاويه الصغرى)) أن الجنون المطبق عند أبي يوسف أكثر السنة. وفي رواية: أكثر من يوم وليلة. وفي أخرى: شهر. وعن محمد: سنة كاملة. وفي رواية: سبعة أشهر. والصحيح كما قال أبو يعقوب: ثلاثة أيام.
          وأثر علي: ((كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه)) سلف.
          والمعتوه: الناقص العقل، وقد عته. والتعته: التجنن والرعونة، يقال: رجل معتوه، بين العته، ذكره أبو عبيد في المصادر التي لا تشتق منها الأفعال.
          واختلف في الخطأ والنسيان في الطلاق، فقالت طائفة: من حلف على أمر أن لا يفعله بالطلاق ففعله ناسياً لم يحنث، هذا قول عطاء، وهو أحد قولي الشافعي، وبه قال إسحاق، وروي عن ابن نافع فيمن حلف بالطلاق وهو لا يريده فسبقه لسانه أنه يدين فيما بينه وبين الله. وكذلك قال الشافعي، فيمن غلبه لسانه بغير اختيار منه فقوله كلا قول، ولا يلزمه طلاق ولا غيره.
          وروي عن الشعبي وطاوس، في الرجل يحلف على الشيء فيخرج على لسانه غير ما يريد: له نيته، وخففه أحمد، وقال الحكم: يؤخذ بما تكلم به، وممن أوجب عليه الحنث مكحول وعمر بن عبد العزيز وقتادة / وربيعة والزهري، وهو قول مالك والثوري والكوفيين وابن أبي ليلى والأوزاعي، وحجة من لم يوجب الحنث عليه حديث الباب: ((العمل بالنية)) والناسي لا نية له، وحديث: ((إن الله تجاوز عن أمتي... الحديث)).
          واحتج الذين أوجبوا الحنث فقالوا: معنى: رفع الخطأ والنسيان: إنما هو في الإثم بينك وبين الله، وأما في حقوق العباد فلازمة في الخطأ والنسيان في الدماء والأموال، وإنما يسقط في قتل الخطأ ما كان يجب فيه من عقوبة أو قصاص، ووقع في كثير من النسخ: والنسيان في الطلاق والشرك. وهو خطأ، والصواب: والشك، مكان الشرك.
          واختلف في الشك في الطلاق، فأوجبه مالك، وقال الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز: أفرق بالشك ولا أجمع به. وممن لم يوجبه بالشك ربيعة والشافعي وأحمد وإسحاق. قال الشافعي ومن بعده: من شك أخذ بالأقل حتى يستيقن، ولا يجوز عندهم أن يرفع نفس النكاح بشك الحنث، وإليه أشار (خ).
          وقول عطاء: ((إذا بدا بالطلاق فله شرطه)) يريد: مثل قوله: أنت طالق إن فعلت كذا، وشبهه. وذكر عن بعضهم أنه لا ينتفع بشرطه. وقول الزهري إلى آخره يريد أنه لم يحلف بحضرة بينة؛ لأنه لا يقبل ذلك منه إذا حضرت البينة يمينه.
          قوله: (طلاق كل قوم بلسانهم) فالعلماء مجمعون أن العجمي إذا طلق بلسانه وأراد الطلاق، أنه يلزمه؛ لأنهم وسائر الناس في أحكام الله سواء، وأما قول قتادة: ((إذا حملت)) إلى آخره. فأخرجه ابن أبي شيبة، عن عبد الأعلى عن سعيد عنه، وحكاه أيضاً عن محمد بن سيرين والحسن، وحكى مثله ابن المواز، عن أشهب قال: في قوله: إذا حملت، وإذا حضت، وإذا وضعت، ليس بأجل، ولا شيء عليه حتى يكون ما شرط، وهو قول الثوري والكوفيين والشافعي. قالوا: وسواء كان هو غيب لا يعلم أو مما يعلم، نحو قوله: إن ولدت، وإذا مطرت السماء، وإذا جاء رأس الشهر فإنه لا يقع الطلاق إلا بوجود الوقت والشرط.
          وقول الزهري: ((إن قال: ما أنت بامرأتي نيته)) هو قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي. وقال الليث: هي كذبة. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بطلاق.
          وقول قتادة: ((إذا طلق في نفسه فليس بشيء)) أخرجه ابن أبي شيبة، عن حفص بن غياث، ورواه عبد الرزاق، عن معمر، عنه. وقاله أيضاً محمد بن سيرين، والحسن ابن أبي الحسن، وسعيد بن جبير، وجابر بن زيد، وعطاء، وعامر بن شراحيل، وهو قول أبي حنيفة والشافعي والظاهرية، كأنهم تعلقوا بالحديث الصحيح في الباب: ((إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل به أو تكلم))، جعل ما لم ينطق به اللسان لغواً لا حكم له، حتى إذا تكلم به يقع الجزاء عليه، ويلزم المتكلم به.
          وفي ((المحلى)) أن ابن سيرين توقف في ذلك. وقال الزهري: هو طلاق، وهو رواية أشهب عن مالك، وحكاه ابن بطال عن ابن سيرين أيضاً، قال: وهو قول جماعة أئمة الفتوى. قال ابن حزم: احتج من ذهب إلى هذا القول إلى حديث: ((إنما الأعمال بالنيات)) أي: فجعل الأعمال مقرونة بالنيات. ولو كان حكم من أضمر في نفسه شيئاً حكم المتكلم به، كان حكم من حدث نفسه في الصلاة بشيء متكلماً.
          وفي إجماعهم على أن ذلك ليس بكلام مع الحديث الصحيح: ((من صلى صلاة لا يحدث فيها نفسه غفر له)) دليل على أن حديث النفس لا يقوم مقام الكلام. قال: فيقال لهم: هذا حجة لنا عليكم؛ لأنه ◙ لم يفرد أحدهما عن الآخر / ، بل جمعهما جميعاً، ولم يوجب حكماً بأحدهما دون الآخر. وكذا يقول: إن من نوى الطلاق ولم يتلفظ به، أو لفظ به ولم ينوه، فليس ذلك طلاقاً إلا حتى يلفظ به وينويه إلا أن يحضر نص بإلزامه بنية دون عمل، أو بعمل دون نية، فيقف عنده.
          واحتجوا أيضاً بأن قالوا: إنكم تقولون: من اعتقد الكفر بقلبه فهو كافر، وإن لم يلفظ به. وتقولون: إن المصر على المعاصي آثم معاقب بذلك. وتقولون: إن من قذف محصنة في نفسه فهو آثم غير قاذف، ومن اعتقد عداوة مؤمن ظلماً فهو آثم عاص لله، وإن لم يظهر ذلك بقول ولا عمل، وإن من أعجب بعلمه أو راعى به فهو هالك.
          قلنا: أما اعتقاد الكفر فإن القرآن العظيم قضى بذلك نصًّا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ} إلى قوله: {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة:41] فهذا خرج بالنص، وأيضاً فإن المعفو عنه من حديث النفس إنما هو عن هذه الأمة فضيلة لهم بنص الحديث. ومن أصر على الكفر فليس من أمته. وأما المصر على المعاصي فليس كما ظننتم، صح [عن] رسول الله صلعم: ((من هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه)) فصح أن المصر [على] الإثم بإصراره هو الذي عمل السيئة ثم أصر عليها، وهذا جمع النية السوء والعمل السوء معاً.
          وأما من قذف محصنة في نفسه فقد نهاه الله عن الظن السوء، وهذا ظن سوء، فخرج عما عفي عنه بالنص، ولا يحل أن يقاس عليه غيره، فخالف النص الثابت.
          وأما من اعتقد عداوة مسلم فإن لم يضر بعمل ولا بكلام فإنما هي بغضة، والبغضة التي لا يقدر المسلم على صرفها عن نفسه لا يؤاخذ بها، فإن تعمد ذلك فهو عاص؛ لأنه مأمور بموالاة المسلم ومحبته، فتعدى ما أمره الله به، فلذلك أثم، وكذلك الرياء والعجب، فقد صح النهي عنهما، ولم يأت نص قط بإلزام طلاق أو عتاق أو رجعة أو هبة أو صدقة بالنفس، ما لم يلفظ بشيء من ذلك، فوجب أنه كله لغو.
          واختلف في كتابة الطلاق من غير تلفظ به، فأوجب قوم الطلاق بالكتابة، هذا قول النخعي والشعبي والحكم والزهري ومحمد بن الحسن، واحتج الحكم بأن الكتاب كلام بقوله تعالى: {فَأَوْحَى [إِلَيْهِمْ] أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11] قال: كتب لهم. وهو قول أحمد بن حنبل: إذا كتب طلاق امرأته بيده فقد لزمه؛ لأنه عمل بيده.
          وقالت طائفة: إن أنفذ الكتاب إليها نفذ الطلاق. روي ذلك عن عطاء والحسن وقتادة. وحديث أبي هريرة سلف، وحديث جابر يأتي في الحدود.
          ومعنى (أذلقته) _كما قال صاحب ((العين))_: أحرقته، يقال: أذلق الرجل غيره أحرقه بطعنة أو حجر فضربه به. وعبارة بعضهم: أذلقته: بلغت به الجهد حتى قلق، وكانت عائشة تصوم في السفر حتى أذلقها السموم؛ أي: جهدها. أذلقه الصوم، وذلقه: أي: أضعفه. وقال الخطابي: أصابته بذلقها؛ أي: بحدها.
          وقال ابن فارس: كل محدود مذلق، قال: والإذلاق: سرعة الرمي.
          ومعنى (جمز): وثب، وأسرع هارباً من القتل يجمز جمزاً.
          قوله في حديث جابر: (تنحى لشقه الذي أعرض) وكذا في حديث أبي هريرة؛ أي: قصد الجهة التي إليها وجهه ◙.
          قوله: (فشهد على نفسه أربع شهادات) أخبر به ابن أبي ليلى وأحمد في اعتبار إقراره أربعاً في مجلس واحد أو مجالس، وخصه / أبو حنيفة وأصحابه بالمجالس المتفرقة، ومذهبنا ومذهب مالك: أنه يكفي مرة؛ لحديث: ((فإن اعترفت فارجمها)).
          قوله: (وكان قد أحصن) أي: وطئ في نكاح صحيح. قال ثعلب فيما حكاه ابن فارس: كل امرأة عفيفة محصِنة ومحصَنة، وكل امرأة متزوجة فهي محصنة لا غير. قال: ويقال: أحصن الرجل، فهو محصن، وإذا أحد ما جاء على أفعل فهو مفعل، قيل: ومنه {مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة:5]. أي: متزوجين غير زناة.
          قال والدي ⌂:
          (باب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ}) [الأحزاب:49] غرض (خ) من هذه الترجمة بيان أن لا طلاق قبل النكاح، ومذهب الحنفية صحة الطلاق قبله فأراد الرد عليهم.
          قوله: (أبي بكر بن عبد الرحمن) بن الحارث بن هشام المخزومي يقال له: راهب قريش، و(عبيد الله بن عبد الله بن عتبة) بضم المهملة وإسكان الفوقانية، و(أبان) بفتح الهمزة وخفة الموحدة، ابن عثمان، و(علي بن الحسين) المشهور بزين العابدين، و(شريح) بضم المعجمة وفتح الراء وتسكين التحتانية وبالمهملة، القاضي، و(عامر بن سعد) ابن أبي وقاص، و(جابر بن زيد) أبو الشعثاء مؤنث الأشعث، و(سالم) هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب، و(نافع بن جبير) مصغر ضد الكسر، ابن مطعم النوفلي، و(محمد بن كعب) القرظي بضم القاف وفتح الراء وبالمعجمة، و(سليمان بن يسار) ضد اليمين، و(عمرو بن هرم) بفتح الهاء وكسر الراء، ابن حيان _بتشديد التحتانية_ الأزدي، مات سنة سبع عشرة ومائتين، ومقصوده من تعداد هؤلاء الجماعة الثلاثة والعشرين من الفقهاء الأفاضل [الإشعار] بأنه يكاد أن يكون إجماعاً على أنه لا تطلق المرأة قبل النكاح.
          واعلم أنهم كلهم تابعيون إلا أولهم يعني عليًّا ☺ فإنه صحابي وإلا ابن هرم فإنه من تبع التابعين.
          قوله: (لا شيء عليه) أي: لا يقع به الطلاق، و(سارة) بتخفيف الراء، زوجة إبراهيم أم إسماعيل ♂.
          فإن قلت: تقدم في كتاب الأنبياء أنه صلعم قال: ((لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ثنتان منهن في ذات الله وهو: إني سقيم، وبل فعله كبيرهم))، ولم يعد هذا كما هو في ذات الله، بل مفهومه أنه ليس في ذات الله؟ قلت: كانت الثالثة في ذات الله أيضاً، لكن لما كان فيه حظ لنفس إبراهيم ونفع له لم يكن خالصاً لذات الله بخلافهما، فصدق الاعتباران فيها، فلا منافاة بين القولين إذ كل باعتبار، ويحتمل أن يكون معناه أنه قال: أختي في الدين وفي الله، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
          قوله: (الإغلاق) أي: الإكراه؛ لأن المكره مغلق عليه في أمره، وقال بعضهم: كأنه يغلق عليه الباب ويضيق عليه حتى يطلق، و(السكران) عطف على الطلاق لا على الإغلاق، و(الموسوس) بفتح الواو وكسرها من وسوست إليه نفسه، والوسوسة حديث النفس، و(أقر على نفسه) أي: بالزنا وهو الرجل الأسلمي، و(شارفي) بلفظ التثنية، والشارف _بكسر الراء_ المسنة من النوق، و(ثمل) بالكسر إذا أخذ فيه الشراب، مر الحديث في كتاب الشرب في باب بيع الحطب والكلأ.
          و(ليس بجائز) أي: واقع إذ لا عقل للأول ولا اختيار للثاني، وقال الشافعية: يقع طلاق السكران تغليظاً عليه وذلك إذا كان متعدياً بالشرب.
          قوله: (عقبة) بسكون القاف، ابن عامر الجهني الصحابي الشريف المقرئ الفرضي الفصيح، وهو كان البريد إلى عمر بن الخطاب بفتح دمشق ووصل المدينة في سبعة أيام ورجع منها إلى الشام في يومين ونصف بدعائه عند قبر رسول الله صلعم / بذلك؛ أي: بتقريب الطريق عليه.
          قوله: (شرطه) أي: فله أن يشترط ويعلق طلاقها على شرط معين لا يلزم أن يكون الشرط مقدماً على الطلاق، بل يصح أن يقال: أنت طالق إن دخلت الدار كما في العكس.
          قوله: (ألبتة) نصب على المصدر قال النحاة: قطع همزة ألبتة بمعزل عن القياس، قال نافع لابن عمر: ما حكم رجل طلق امرأته طلاقاً بائناً إن خرجت من البيت، قال ابن عمر: إن خرجت وقع طلاقه، و(بتت) أي: انقطعت عن الزوج بحيث لا رجعة فيها، وفي بعضها: ((بانت))، و(إن لم تخرج) أي: إن لم يحصل الشرط فلا شيء عليه.
          قوله: (جعل ذلك في دينه) أي: يدين بينه وبين الله ويفوض إليه، و(إبراهيم) أي: النخعي، و(نيته) يعني هو كناية يعتبر قصده إن كان قد نوى الطلاق وقع وإلا فلا، و(تغشاها) أي: يجامعها في كل طهر مرة لا مرتين لاحتمال أنه بالجماع الأول صارت حاملاً فطلقت به، و(استبان) أي: ظهر واتضح.
          قوله: (الطلاق عن وطر) أي: ينبغي أن الرجل لا يطلق امرأته إلا عند الحاجة إليه من النشوز ونحوه بخلاف العتاق فإنه لله تعالى فهو مطلوب دائماً.
          قوله: (يدرك) أي: يبلغ، و(جائز) أي: واقع، و(المعتوه) هو الناقص العقل وهذا يشمل الطفل والمجنون والسكران، و(في نفسه) أي: لم يتلفظ ولم يتكلم به.
          قوله: (مسلم) هو ابن إبراهيم القصاب، و(هشام) أي: الدستوائي، و(زرارة) بضم الزاي وخفة الراء الأولى (ابن أبي أوفى) بلفظ أفعل من الوفاء، العامري قاضي البصرة، و(ما لم تعمل) أي: من العمليات (أو تكلم) في القوليات.
          فإن قلت: قالوا: من عزم على ترك واجب أو فعل محرم ولو بعد عشر سنين مثلاً في الحال؟ قلت: المراد بحديث النفس ما لم يبلغ إلى حد الجزم ولم يستقر، أما إذا عقد قلبه به واستقر عليه فهو مؤاخذ بذلك الجزم. نعم لو نفى ذلك الخاطر ولم يتركه يستقر لا يؤاخذ به بل يكتب له به حسنة.
          قوله: (أصبغ) بفتح الهمزة والموحدة وإسكان المهملة وبإعجام العين، (ابن الفرج) بالفاء والراء والجيم، و(ابن وهب) عبد الله، و(رجلاً) اسمه ماعز بكسر المهملة وبالزاي، و(أسلم) بلفظ الماضي قبيلة، و(تنحى) أي: قصد شقه الذي أعرض إليه، و(أحصنت) بالمعروف، وقيل: بالمجهول أيضاً؛ أي: هل تزوجت قط، و(المصلى) أي: مصلى العيد، والأكثر على أنه مصلى الجنائز وهو بقيع الغرقد، وفيه أن المصلى ليس له حكم المسجد وإلا لحرم الرجم فيه وتلطيخه بالدم، و(أذلقته) بالمعجمة واللام والقاف؛ أي: أقلقته، و(جمز) بالجيم والزاي، و(الحرة) أرض ذات حجارة سود خارج المدينة.
          الخطابي: (تنحى) تفعل من نحا إذا قصد؛ أي: قصد الجهة التي إليها وجهه ونحا نحوه، و(أذلقته) أي: أصابته الحجارة بذلقها، وذلق كل شيء حده، و(جمز) أي: فر مسرعاً، وإنما ردده مرة بعد أخرى لأنه اتهمه بالجنون، ورجمه حين تقرر عنده أنه ليس بمجنون.
          وفيه أنه لم يطالبه بالإقرار في أربعة مجالس مختلفة.
          قوله: (الآخر) بفتح الهمزة المقصورة وكسر المعجمة؛ أي: المتأخر عن السعادة المدبر المنحوس، وقيل: الأرذل، وقيل: اللئيم، و(قبله) بكسر القاف وفتح الموحدة، جهته، وأذلقته قال بعضهم: معناه بلغ منه الجهد، وإنما قال رسول الله صلعم: ((هل بك جنون))؛ ليتحقق حاله، فإن الغالب أن الإنسان لا يصر على ما يقتضى قتله مع أن له طريقاً إلى سقوط الإثم بالتوبة.
          وفيه استتابة الإمام من يقيم الحد عليه.
          فإن قلت: يفهم من الحديث أنه لا بد من الإقرار أربعاً؟ قلت: لم يكن على سبيل / الوجوب بدليل أنه صلعم قال: ((اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)) ولم يشترط عدداً.
          الزركشي:
          (الإغلاق) الإكراه كأنه يغلق عليه الباب ويضيق عليه حتى يطلق.
          (والنسيان في الطلاق والشرك) ويروى: ((والنسك)) وهو أليق.
          (الموسوس) يقال: رجل موسوس بكسر الواو لا غير، قاله القاضي.
          (المعتوه) الناقص العقل، وقد عته.
          (ما حدثت به أنفسها) بالفتح على المفعول، أي: بلومها، قال المطرزي: وأهل اللغة يقولون: أنفسها بالضم يريدون بغير اختيارها.
          (أذلقته الحجارة) بذال معجمة؛ أي: أصابته بحدها، وقال ابن الأثير: أي: بلغت منه الجهد حتى قلق، وقال ابن مغيث في ((الوثائق)): يروى بذال معجمة وصوابه بمهملة من الاندلاق.
          (إن الآخر)(2) بقصر الهمزة وكسر الخاء الأبعد، وأغرب ابن القوطية فحكى المد.
          (فلما شهد على نفسه أربع) منصوب نصب المصادر، وأصله: مرارًا أربعًا، ثم أضيف العدد إلى المعدود. انتهى كلام الزركشي.
          أقول:
          قوله: (رفع العلم عن ثلاثة... إلى آخره) الجنون مرض يعرض بسبب غلبة المرة السوداء، ويسمى المجنون في اصطلاح الأطباء الممرور فيغيب العقل والإفاقة منه زواله.
          قوله: (يدرك) يبلغ إما بالاحتلام وإما بالسن خمسة عشر سنة، والنوم عارض يحصل ترجي البدن فتحصل مع الغيبة والاستيقاظ عكسه وزواله، فالصبي هو أحد الأسنان السبعة وهو سن الطفولة والصبي والمراهقة والبلوغ والكهولة والشيخوخة والهرم المعارضة للإنسان.
          قوله: (الطلاق في الإغلاق) هو الإكراه لأن المكره مغلق عليه في أمره ومضيق عليه في تصرفه، كما تغلق الباب على الإنسان، ومنه لا تغلق الرهن، وعلومه إذا بقي في يد المرتهن ولا يقدر صاحبه على تخليصه، والمعنى أنه لا يشجع المرتهن إذا لم يفكه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية إذا لم يؤديا عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن فأبطله الإسلام.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: إنما وجب القضاء على السكران تغليظاً عليه لا أنه واع يفهم)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: قوله: (إن الآخر)..إلى آخره المرجوم هو ماعز بن مالك، ويقال: إن ماعزاً لقب، واسمه عريب والتي وقع عليها هي فاطمة فتاة هزال)).