مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: {لم تحرم ما أحل الله لك}

          ░8▒ باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1]
          فيه أحاديث:
          1- حديث معاوية بن سلام، وقد سلف في سورة التحريم / .
          2- حديث عائشة في قصة العسل. وسلف هناك أيضاً. ثم ساقه من حديث عائشة أيضاً مطولاً.
          وفيه أن قائل ذلك يعني: أكلت مغافير(1) عائشة وسودة الحديث، وسلف في النكاح، وأخرجه (م) أيضاً.
          أما ما ذكره (خ) عن ابن عباس: إذا حرم الرجل امرأته فليس بشيء. يعني: فليس بتحريم مؤبد، وعليه كفارة يمين. قال الطحاوي: روي في قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1] أنه ◙ قال: ((لن أعود لشرب العسل)) ولم يذكر يميناً، فالقول هو الموجب للكفارة، إلا أنه يوجب أن يكون قد كان هناك يمين لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فدل هذا أنه حلف مع ذلك التحريم، وقال زيد بن أسلم في هذه الآية: إنه حلف ◙ أن لا يطأ مارية أم ولده، ثم قال بعد ذلك: ((هي حرام)) ثم أمر الله فكفر، فكانت كفارة ليمينه لا لتحريمه.
          قال ابن المنذر: والأخبار دالة على أنه ◙ كان حرم على نفسه شربة من عسل، وحلف مع ذلك، فإنما لزمته الكفارة ليمينه لا لتحريمه ما أحل الله له، فلا حجة لمن أوجب فيه كفارة يمين. قال المهلب: وهذه الآية لم تحرم فيما لم يشرع فيه التحريم من المطاعم وغيرها والإماء.
          وأما الزوجات فقد شرع الله التحريم فيهن بالطلاق، وبألفاظ أخر مثل الظهار وغيره، فالتحريم فيهن بأي لفظ فهم أو عبر عنه لازم؛ لأنه مشروع، وغير ذلك من الإماء والأطعمة والأشربة وسائر ما يملك ليس فيه شرع على التحريم، بل التحريم فيه منهي عنه؛ لقوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1] وهذه نعمة أنعم الله بها على محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأمته، بخلاف ما كان في سائر الأديان.
          ألا ترى أن إسرائيل حرم على نفسه أشياء، وكان نص القرآن يعطي أن من حرم على نفسه شيئاً أن ذلك التحريم يلزمه، وقد أحل الله ذلك الإلزام إذا كان يميناً بالكفارة، فإن لم يكن بيمين لم يلزم ذلك التحريم، إنعاماً من الله علينا. وكذلك ألزمنا كل طاعة جعلناها لله على أنفسنا، كالمشي إلى بيت الله الحرام، ومسجد المدينة، والأقصى، وجهاد الثغور، والصوم، وشبه ذلك، ألزمنا هذا لما فيه لنا من المنفعة، ولم يلزم ما حرمناه على أنفسنا، ألا ترى قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ} [التحريم:1] فلم يجعل الله لنبيه أن يحرم إلا ما حرم الله {وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التحريم:1] أي: قد غفر الله لك ذلك التحريم(2).
          وفيه: أن إفشاء السر وما تفعله المرأة مع زوجها ذنب ومعصية يجب التوبة منه؛ لقوله تعالى: {إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ} [التحريم:4] ويحتمل: إن تتوبا إلى الله من هذا الذنب، ومن التظاهر عليه في الغيرة والتواطؤ على منعه ما كان له من ذلك الشراب.
          وفيه دليل أن ترك أكل الطيبات لمعنى من معاني الدنيا لا يحل، فإن كان ورعاً وتأخيراً لها إلى الآخرة كان محموداً. والمغافير والعرفط سلفا في سورة التحريم.
          وعبارة ابن بطال هنا: المغافير شبيه بالصمغ، يكون في الرمث، فيه حلاوة تطيب به نكهة آكله، يقال: أغفر الرمث: إذا ظهر فيه. واحدها مغفور.
          والحلواء في حديث عائشة فيها المد والقصر.
          قال والدي ⌂:
          (باب {لِمَ تُحَرِّمُ}) [التحريم:1].
          قوله: (الحسن بن الصباح) بتشديد الموحدة، ابن محمد الواسطي، و(الربيع) بفتح الراء، ابن نافع الحلبي، و(معاوية) هو ابن سلام، و(يحيى بن أبي كثير) ضد القليل، و(يعلى) بفتح التحتانية وإسكان المهملة وبالقصر، ابن حكيم _بفتح المهملة_ الثقفي.
          قوله: (ليست) أي: تلك الكلمة، وهي أنت حرام بطلاق. فإن قلت: لم خصصت الشيء بالطلاق؟ قلت: لما سبق في سورة التحريم أن ابن عباس قال: في الحرام / يكفر؛ أي: كفارة اليمين.
          قوله: (الحسن بن محمد بن الصباح) أي: الزعفراني، و(حجاج) بفتح المهملة، ابن محمد الأعور، و(ابن جريج) بضم الجيم الأولى، عبد الملك، و(زعم) أي: قال عطاء بن أبي رباح بالموحدة الخفيفة، و(عبيد بن عمير) مصغرين هو أبو عاصم الليثي المكي، و(زينب بنت جحش) بفتح الجيم وإسكان المهملة، أم المؤمنين، و(أيتنا) في بعضها أن أيتنا بتخفيف النون، وفي بعضها بتشديدها ونصب أيتنا، و(عليها) وفي بعضها علينا، و(المغافير) جمع المغفور _بضم الميم وإسكان المعجمة وضم الفاء وبالواو والراء_ وليس في كلامهم مفعول بالضم إلا قليلاً، وقيل: هو جمع المغفار وهو نوع من الصمغ يتحلب عن بعض الشجر يحل بالماء ويشرب وله رائحة كريهة.
          قال (خ): المغافير شبيه بالصمغ يكون في الرمث فيه حلاوة وأغفر الرمث وهو مرعى الإبل إذا ظهر فيه واحدها مغفور، ويقال: مغاثير؛ أي: بالمثلثة.
          قوله: (لن أعود له) أي: للشرب والخطاب في (إن تتوبا) لعائشة وسودة، وتقدم في سورة التحريم أنه صلعم قال: ((وحلفت _أي_ على عدم العود)) وكان يكره صلعم أن يوجد منه الرائحة لأجل مناجاته الملائكة، فحرم العسل على نفسه لذلك بناء على ظنه صدقها، وأكثر أهل التفسير والفقه أن الآية نزلت في تحريم مارية _بالتحتانية الخفيفة_ القبطية جارية رسول الله صلعم ومر ثمة.
          قوله: (فروة) بفتح الفاء وإسكان الراء وبالواو (ابن أبي المغراء) بفتح الميم وتسكين المعجمة وبالراء ممدوداً ومقصوراً، و(علي بن مسهر) بلفظ فاعل الإسهار بالمهملة والراء، و(الحلواء) بالمد كل شيء حلو وذكر العسل بعده للتنبيه على شرفه وهو من باب العام قبل الخاص، و(العكة) بالضم، الزق الصغير، وقيل: هي آنية السمن، وفيه أن أكل لذيذ الأطعمة والطيبات من الرزق لا ينافي الزهد لا سيما إذا حصل اتفاقاً.
          قوله: (لنحتالن) فإن قلت: كيف جاز على أزواج رسول الله صلعم الاحتيال؟ قلت: هو من مقتضيات الغيرة الطبيعية للنساء أو هو صغيرة معفو عنها مكفرة.
          و(جرست) بالجيم والراء والمهملة؛ أي: أكلت، و(العرفط) بضم المهملة والفاء وإسكان الراء وبالمهملة، من شجر العضاه، وقيل: هو نبات له ورقة عريضة تفترش على الأرض له شوكة حجناء وثمرة بيضاء كالقطن مثل زر القميص، خبيث الرائحة، وتلحسه النحل، وتأكل منه فيحصل منه العسل.
          قوله: (أباديه) من المباداة بالموحدة، وفي بعضها بالنون، و(فرقاً) أي: خوفاً، وفيه أنه يجوز لمن يقسم بين نسائه أن يدخل في النهار إلى بيت غير المقسوم لها لحاجة ونحوها، و(حرمناه) بتخفيف الراء؛ أي: منعناه منه، فإن قلت: الحديث الأول فيه أنه شرب في بيت زينب وحفصة من المتظاهرين، والثاني فيه أنه شرب في بيت حفصة وهي ليست من المتظاهرات.
          قلت: قال القاضي عياض: الأول أصح، وهو أولى لظاهر كتاب الله حيث قال: {وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] فهما ثنتان لا ثلاث، وكما جاء في حديث ابن عباس وعمر أن المتظاهرتين عائشة وحفصة وقد انقلبت الأسماء على الراوي في الرواية الأخرى.
          وأقول: لا حاجة إلى الحكم بانقلاب الأسماء على الراوي وكيف ومثل هذا الحكم يوجب ارتفاع الوثوق عن الروايات كلها، ولعله صلعم شرب العسل أولاً في بيت حفصة، فلما قيل له ما قيل ترك الشرب في بيتها، ولم يكن ثمة لا تحريم ولا نزول الآية فيه، ثم بعد ذلك شرب في بيت زينب فتظاهرت عائشة وحفصة على ذلك القول، فحيث كرر عليه ذلك حرم العسل على نفسه فنزلت الآية ولا محذور في هذا التقدير، وأما حكاية التثنية فباعتبار / أن سودة وهبت نوبتها لعائشة فهي كانت تابعة لعائشة.
          فإن قلت: لم دار رسول الله صلعم إليها ولم يكن لها نوبة؟ قلت: لم يكن لها يوم وليلة، ولكن كان ◙ يدخل عليها ويتردد إليها، أو كان هذا قبل هبة نوبتها.
          الزركشي:
          (قال: لا بأس) كذا وقع، والصواب: لا بل شربت عسلاً.
          و(المغافير) سبق في سورة التحريم.
          (والعرفط) بضم العين والفاء وآخره طاء مهملة: شجر الطلح وله صمغ، هو المغافير، كريه الريح.
          (فأردت أن أباديه) بالموحدة في نسخة، وبالنون في أخرى من النداء، وإن كان الباء محفوظًا فأصل الكلمة مهموزة من بادأت به؛ أي: أبدأت به مفاعلة منه.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: فإن قلت قولهن: ((أكلت مغافير)) هو كذب عليه ◙ وقد قال: ((من كذب علي متعمداً...)) الحديث، فيلزم أن يكن القائلات أكلت مغافير يترتب عليهن ما يترتب على الكاذب عليه؟ قلت: إنما يترتب على الكاذب عليه ◙ في أمر يتعلق بالشريعة، أو في حديث لم يقله، وأما سنة أكل شيء إليه لم يكن أكله فلا، وأيضاً إنما قلن ذلك ظنًّا لا يقيناً تحققن أنه شرب العسلة، ويوضحه لما قال: شربت عسلاً فلو جرست عسلة العرفط إلى آخره)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: ويحتمل أن يقال: إن المباحات عن الزوجات خلقها الله حلالاً لمنافع العباد، فلا يجوز لبشر أن يحرمها، والزوجات أجلب بنكاح وهو فعل البشر فجاز أن يحرم البشر ذلك)).