الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب صيام يوم عاشوراء

          ░69▒ (باب صِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ): أي: بيانُ حكمِ صومهِ من ندبٍ أو غيره كما يأتي، وعاشوراء بالمد على الأشهرِ، وحكي فيه القصرُ، وفي ((القاموس)): العاشوراءُ والعشوراء ويقصران، والعاشور عاشِر المحرَّم أو تاسعه. انتهى.
          وزعمَ ابنَ دريد: أنَّه اسمٌ إسلاميٌّ لم يعرف في الجاهليَّة؛ لأنَّه لا يعرف في كلامهم فاعولاءُ. انتهى.
          وردَّ عليه: بأنَّ ابن الأعرابي حكى: خابوراء، وبقول عائشة ♦: إنَّ أهل الجاهليَّة كانُوا يصومونَه، وردَّ هذا بأنَّ قولها المذكُور لا دلالةَ فيه لما ذكرَ فافهم.
          وقال الجواليقيُّ: لم يجئ فاعولاء في كلامِ العربِ إلَّا عاشوراء، وضاروراء: اسمٌ للضَّراء، وساروراء اسمٌ للسَّراء، ودالولاء اسمٌ للدَّلالةِ، وخانوراء اسمُ موضعٍ. انتهى.
          وهو اسمٌ لليومِ العاشر من المحرَّم، والاشتقاق يدلُّ عليه، وهو مذهبُ العلماءِ كافَّة إلَّا ما حكيَ عن ابن عبَّاس، ووافقهُ الضَّحَّاك من أنَّه اليوم التَّاسعَ منه.
          وقال ابنُ الملقِّن: ومن الغريبِ ما في ((تفسيرِ أبي اللَّيث السَّمرقنديُّ)): أنَّ عاشوراء الحادي عشر، وحكاهُ المحبُّ الطَّبري أيضاً. انتهى.
          وقال في ((الفتح)): اختلفَ أهلُ الشَّرع في تعيينهِ فقال الأكثرُ: هو العاشر.
          قال القرطبيُّ: عاشوراء معدولٌ عن عاشرة للمبالغةِ والتَّعظيم، وهو في الأصل صفةٌ لليلةِ العاشرة؛ لأنَّه مأخوذٌ من العشرِ الذي هو اسم العقدِ، واليوم مضاف إليها، قال: فإذا قيلَ: يوم عاشوراء، فكأنَّه قيل: يومُ اللَّيلة العاشرة، إلَّا أنَّهم لمَّا عدلوا بهِ عن الصِّفة غلبت عليهِ الاسميَّة لما ذكر، فحذفوا اللَّيلة.
          وقال الزَّين ابن المنيِّر: الأكثرُ على أنَّ عاشوراء اليوم العاشِر من المحرَّم، وهو مقتضَى الاشتقاق والتَّسمية، وقيل: هو التَّاسع، فعلى الأوَّل اليوم مضافٌ للَّيلة الماضية، وعلى الثَّاني مضافٌ للَّيلة الآتية، وقيلَ: إنَّما سمِّي التَّاسع عاشوراء أخذاً من أورادِ الإبلِ، فإنَّهم كانوا إذا رعوا الإبل ثمانية أيَّام، ثم أوردوهَا في التَّاسع قالوا: أوردنا عِشراً _بكسر العين_ وهكذا إلى الثَّلاثةِ.
          وقال ابنُ المنيِّر: وعندي أنَّه على الأصلِ حسبت العرب / الأربعة، وبعضُ الخامس خمسة؛ لأنَّ الإبل لا ترد غالباً إلَّا في أثناءِ اليوم، فحسبُوا بعضَ اليوم يوماً؛ كقولهِ تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197]، مع أنَّ أشهر الحجِّ شهران وعشرةُ أيَّام.
          وروى مسلمٌ بسندهِ إلى الحكمِ بن الأعرجِ أنَّه قالَ: انتهيت إلى ابن عبَّاس وهو متوسِّدٌ رداءهُ، فقلت: أخبرنِي عن يومِ عاشوراء قال: إذا رأيتَ هلال المحرَّم فاعدد وأصبح يوم التَّاسع صائماً، قلت: هكذا كانَ النَّبي يصومُه؟ قال: نعم، وهذا ظاهرهُ أنَّه التَّاسع.
          لكن قال الزَّين ابن المنيِّر: قوله: ((إذا أصبحتَ من تاسعهِ)) فأصبح يشعرُ بأنَّه العاشر، ويؤيِّد هذا الاحتمال ما رواهُ مسلمٌ أيضاً من وجهٍ آخر عن ابنِ عبَّاس: أنَّ النَّبيَّ قالَ: ((لئن بقيتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التَّاسع، فماتَ قبل ذلك))، فإنَّه ظاهرٌ في أنَّه عليه السَّلام كان يصوم العاشِر، وهمَّ بصومِ التَّاسع فمات قبلهُ، ثمَّ ما همَّ به من صومِ التَّاسع يحتمل أنَّ معناه: أنَّه لا يقتصرُ عليهِ، بل يضيفه إلى العاشرِ احتياطاً لهُ، أو مخالفةً لليهودِ والنَّصارى وهو الأرجحُ، وبه يشعر بعضُ روايات مسلمٍ.
          ولأحمدَ عن ابن عبَّاس مرفوعاً: ((صومُوا يومَ عاشوراء وخالفُوا اليهود، صومُوا يوماً قبلَه أو يوماً بعدهُ)).
          وهذا في آخرِ الأمرِ، وقد كان عليه السَّلام يحبُّ موافقةَ أهلِ الكتاب فيما لم يؤمرْ فيهِ بشيءٍ، ولاسيَّما إذا كان فيما يخالفُ فيهِ أهل الأوثانِ، فلمَّا فتحت مكَّة، واشتهرَ أمر الإسلامِ أحبَّ مخالفتهم كما في ((الصَّحيح))، فهذَا من ذلكَ وافقهم أو لا؟ وقال: ((نحنُ أحقُّ بموسى منكُم)) ثمَّ أحبَّ مخالفتهم، فأمرَ بأن يضافَ إليه يومٌ قبلهُ ويومٌ بعدهُ، خلافاً لهم.
          قال: ويؤيِّده رواية التِّرمذي بلفظ: ((أمرنَا رسول الله بصيامِ عاشوراءَ يوم العاشرِ))، وعليهِ فصيام عاشوراء على ثلاثةِ مراتبٍ: أدناهَا: أن يصامَ وحدهُ، وفوقَه: أن يصامَ معه التَّاسع، وفوقَه: أن يصامَ التَّاسع والحادي عشَر.
          قال بعضُ العلماءِ في شرح حديث مسلمٍ لمعنى ((عشتُ إلى قابلَ لأصومنَّ التَّاسع))، ويحتمل أنَّه أراد نقلَ العاشرِ إلى التَّاسع، ويحتملُ أنَّه أراد أن يضيفهُ إليهِ في الصَّومِ، فلمَّا توفِّي عليه السَّلام قبل البيانِ كان الاحتيَاطُ صومُ اليومينِ. انتهى ما في ((الفتح)) ملخَّصاً.
          وقال ابنُ الملقِّن: قال البندنيجيُّ من أصحابنَا: يستحبُّ صومُ التَّاسع والعاشر، فإن ضمَّ إليهما الحادي عشرَ كان أكملُ.
          ونقله في ((البحرِ)) عن بعضِ الأصحابِ، ونصَّ عليه الشَّافعيُّ في ((الأمِّ))، وفيه حديثٌ في البيهقيِّ، ولأحمدَ أيضاً بلفظ: ((صومُوا يومَ عاشوراء، وخالفُوا اليهودَ، وصوموا قبلهُ يوماً، وبعدهُ يوماً))، وكذلكَ روي عن ابن عبَّاسٍ أيضاً أنَّه قال: ((صومُوا قبلهُ يوماً وبعدهُ يوماً، وخالفوا اليهودَ)). انتهى.
          وقال العينيُّ: اختلفُوا لم سمِّي العاشر عاشوراء، فقيل: لأنَّه عاشر المحرَّم وهو الظَّاهر، وقيل: لأنَّ الله أكرم فيهِ عشرةً من الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام بعشرِ كراماتٍ:
          الأوَّل: نصرَ فيه موسَى، وفلقَ له البحرَ، وأغرقَ فيه فرعونَ وجنودهُ.
          الثَّاني: نوحٌ، استوت فيهِ سفينتهُ على الجوديِّ.
          الثَّالث: يونُس، نجِّي فيهِ من بطنِ الحوتِ.
          الرَّابع: تابَ اللهُ فيهِ على آدم.
          الخامس: يوسفُ؛ فإنَّه أخرجَ فيه من الجبِّ.
          السَّادس: عيسَى؛ فإنَّه ولد فيهِ، ورُفع فيهِ.
          السَّابع: داود، فيهِ تابَ الله عليهِ.
          الثَّامن: إبراهيم، فيهِ ولدَ.
          التَّاسع: يعقوب، فيهِ ردَّ بصرهُ عليهِ.
          العاشر: نبيُّنا، فيه غفرَ لهُ ما تقدَّم من ذنبهِ وما تأخَّر.
          وذكر بعضهم من العشرةِ: إدريس؛ فإنَّه رفع فيهِ إلى السَّماء، وأيُّوب، كشفَ الله فيهِ ضرَّه، وسليمان، فيهِ أُعطِي الملك. انتهى ملخَّصاً.
          ونقل ابنُ الملقِّن عن الدَّاوديِّ أنَّه قال: خصَّ هذا اليوم بخصَائص ستَّةَ عشرة ولم يذكرهَا، قال ابنُ الملقِّن: ويحضرنَا منها نصرُ موسى، وفلقُ البحر لهُ، وغرق فرعون وجنوده، واستواء سفينة نوحٍ على الجودِيِّ، وأغرقَ قومهُ.
          وروى معمر عن قتادةَ أنَّه قال: ركبَ نوح في السَّفينة في رجب في عشرٍ بقينَ منه، ونزلَ من السَّفينة يوم عاشوراء، ونجِّي يونس من بطنِ الحوتِ، وتاب على قومهِ، وتابَ على آدم، وإنَّ من أصبحَ ولم يبيتْ صيامهُ يصومه، وفيه أُخرج يوسف من الجبِّ، وولدَ فيهِ عيسى، وتاب اللَّه فيهِ على قومٍ، ويتوب فيه على آخرينَ، وفيه تُكسَى الكعبةُ في كلِّ عامٍ.
          وروى شعبةُ عن أبي الزُّبير، عن جابرٍ مرفوعاً: ((من وسَّع على نفسهِ وأهلهِ يوم عاشوراء، وسَّع الله عليهِ سائرَ سنتهِ)).
          قال جابرٌ وأبو الزُّبير وشعبة: جرَّبناه فوجدناهُ كذلك، وقاله يحيَى بن سعيدٍ وابن عيينةَ، ورواهُ أبو موسَى المدينيُّ في كتابهِ ((فضائلِ الأيَّام والشُّهور)) / وقال: حديثٌ حسنٌ. انتهى ملخَّصاً.
          تنبيه: قال ابنُ الملقِّن أيضاً: ما وردَ في صلاةِ ليلة عاشوراء ويومِ عاشوراء، وفي فضلِ الكُحل يومَه لا يصحُّ، ومن ذلكَ حديث جُويبر، عن الضَّحَّاك، عن ابن عبَّاسٍ رفعه: ((من اكتحلَ بالإثمدِ يومَ عاشوراء لم يرمدْ أبداً)) وهو حديثٌ وضعَه قتلة الحُسين.
          وقال الإمامُ أحمد: الاكتحالُ يوم عاشوراء لم يروَ عن رسولِ الله فيهِ أثرٌ، وهو بدعةٌ، ومن أغربِ ما رويَ فيهِ: أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال في الصَّردِ: ((أنَّه أوَّل طائرٍ صامَ عاشوراء)).
          وهذا من قلَّة الفهمِ، فإنَّ الطَّائر لا يوصفُ بالصَّومِ، قال الحاكمُ: وضعه قتلةُ الحسين ☺. انتهى.
          وفيهِ كما يستفادُ من العينيِّ أنَّ صوم الطَّائر لغويٌّ بمعنى إمساكهِ عن الأكلِ، وذلكَ بإلهامٍ من الله، فيدلُّ على فضلهِ وتعظيمهِ.
          وأقولُ: والصحيح أنَّه لم يثبت فيهِ شيءٌ إلَّا التَّوسعة على العيالِ، كما في حديثِ جابرٍ المار آنفاً، وإلَّا الصَّوم فالصَّحيح أنَّه سنَّة، خلافاً لمن قالَ بكراهتهِ، ولمن قالَ بفرضيَّته كما يأتي.
          قال ابنُ الملقِّن وغيره: اتَّفق العلماءُ على أنَّ صوم عاشوراء اليومَ سنَّة، واختلفوا في حكمهِ أوَّل الإسلامِ، فقال أبو حنيفةَ: كان واجباً، وهو وجهٌ لأصحابنَا، والأشهرُ عندنا أنَّه لم يجب قطُّ في هذهِ الأمَّة، وإنَّما كان متأكد الاستحبابِ، فلما نزلَ صوم رمضان صارَ مستحبًّا دون ذلكَ، ونقل عياض عن بعضِ السَّلف: أنَّ فريضته الآن باقيةٌ لم تنسخ.
          قال: وانقرضَ القائلونَ بهذا، وحصلَ الإجماعُ الآن على أنَّه ليس بفرضٍ، وإنَّما هو مستحبٌّ، وروي عن ابن عمرَ كراهية قصدِ صومهِ وتعيينهِ لهُ قال: وهو ما في ((المحيطِ)) عن أبي حنيفةَ، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وكانَ ابن عمر يكرهُ قصده بالصَّوم، ثمَّ انقرضَ القولُ بذلك، قال: وأمَّا صيام قريشٍ لعاشوراء فلعلَّهم تلقُّوه من الشَّرع السَّالفِ، ولهذا كانوا يعظِّمونه بكسوةِ الكعبةِ فيهِ وغير ذلك.
          قال: ثمَّ رأيتُ في المجلسِ الثَّالث من مجالسِ الباغنديِّ الكبيرِ: عن عكرمةَ أنَّه سئل عن ذلكَ فقال: أذنبتْ قريشٌ ذنباً في الجاهليَّة، فعظمَ في صدورهِم فقيل لهمُ: صومُوا عاشوراء يكفَّر ذلكَ، أو ما معناهُ. انتهى.
          ثمَّ قال: وأمَّا قول بعضهم: المتروكُ تأكُّد استحبابه، فلا يخفَى ما فيهِ، بل تأكُّد استحبابهِ باقٍ ولاسيَّما مع استمرارِ الاهتمامِ به حتَّى في عامِ وفاته حين قالَ: ((لئن عشتُ إلى قابلٍ لأصومنَّ التَّاسع)) ولترغيبهِ في صومهِ بأنَّه يكفِّر سنة، قال: فأتَى تأكيدٌ أبلغ من هذَا. انتهى فتدبَّر.