الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب الحجامة والقيء للصائم

          ░32▒ (باب الْحِجَامَةِ وَالْقَيْءِ لِلصَّائِمِ): قال في ((الفتح)): أي: هل يُفسِدان أو أحدهما الصَّوم، أو لا؟ واعترضَه العينيُّ فقال: اللام في قوله: ((للصائم)) تمنعُ هذا التَّقدير، قال: ولا يخفى ذلك على مَن له أدنى ذوقٍ، انتهى، وقدَّر: هذا بابٌ في بيان أحكامِ الحجامة والقيء يرخَّصان للصَّائم أو لا؟ انتهى.
          وأقولُ: لا يخفى ما فيه، فإنَّ أحاديثَ الباب تدلُّ لِما قدَّره في ((الفتح)) مِن أنَّهما هل يُفسِدان الصَّوم أم لا، ولم يجزم بالحكم للخلاف فيه، فتأمَّل.
          قال الزَّين ابن المنيِّر: جمع بين القيء والحجامة مع تغايرهما، وعادتُه تفريق التَّراجم إذا نظمها خبرٌ واحدٌ فضلاً عن خبرَين، وإنَّما صنع ذلك لاتِّحاد مأخذِهما؛ لأنَّهما إخراجٌ، والإخراج لا يقتضي الإفطار، وقد أومأَ ابنُ عبَّاسٍ إلى ذلك كما سيأتي البحثُ فيه، ولم يذكر المصنِّف حكمَ ذلك، ولكن إيراده للآثار المذكورة يُشعِر بأنَّه يرى عدم الإفطار بهما، ولذلك عقبَ حديث: ((أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ)) بحديثِ: ((أنَّه صلعم احتجمَ وهو صائمٌ))، وسيأتي بيانُ اختلاف السَّلف في المسألتين.
          ░1937م▒ (وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ): أي: الوحاظيُّ الحمصيُّ، قال في ((الفتح)): عادةُ البخاريِّ الإتيانُ بهذه الصِّيغة في الموقوفات إذا أسندها، انتهى.
          (حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ): بتشديد اللَّام قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى): أي: ابنُ أبي كثيرٍ (عَنْ عُمَرَ): بضمِّ العين وفتح الميم (ابْنِ الْحَكَمِ): بفتح الحاء والكاف (ابْنِ ثَوْبَانَ): بفتح المثلثة أوَّله (أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ يَقُولُ: إِذَا قَاءَ): أي: الصَّائمُ بغير اختياره (فَلاَ يُفْطِرُ): و((لا)) نافيةٌ أو ناهيةٌ.
          وقوله: (إِنَّمَا يُخْرِجُ وَلاَ يُولِجُ): تعليلٌ لقوله: ((فلا يُفطِر))، وذلك لأنَّ الصِّيام لا يبطل إلَّا بشيءٍ يدخل، لا بما يخرج منه، / والقيء خارجٌ لا داخلٌ، وقال في ((الفتح)): وللكشميهنيِّ: <أنَّه يخرج ولا يولج> و((يخرج)) بضمِّ الراء وفتح التحتيَّة أوَّله وبضمِّها وكسر الراء مبنيًّا للفاعل، و((يُولج)) مبنيٌّ للمفعول أو للفاعل؛ أي: يدخل، وأوردَ الشُّراح على هذا التَّعليل: المني، فإنَّه ناقضٌ للصَّوم، وموجب الكفَّارة، انتهى.
          وقد يُقال: لا يردُ؛ لأنَّ المني إنَّما يوجب ذلك إذا كان إخراجاً لا خروجاً بنفسه، فهو كالقيء، وليس إيجابُه للكفَّارة على إطلاقه عند الشافعيَّة كما مرَّ، فتدبَّر.
          وقال في ((الفتحِ)) نقلاً عن ابن المنيِّر: يُؤخذ مِن هذا الحديث أنَّ الصَّحابة كانوا يؤوِّلون الظَّاهر بالأقيسةِ من حيث الجملةُ.
          (وَيُذْكَرُ): بالبناء للمفعول (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يُفْطِرُ): بضمِّ أوَّله، قال القسطلانيُّ: أي: إذا تعمَّد القيء وإن لم يعدْ منه شيءٌ إلى جوفهِ، فهو محمولٌ على حديث المرفوع المرويِّ عند المصنِّف في ((تاريخه الكبير)) بلفظ: ((مَن ذرعَه القيءُ وهو صائمٌ فليسَ عليه القضاءُ، وإن استقاءَ فليقضِ))، لكن ضعَّفَه المؤلِّف، ورواه أصحاب ((السُّنن)) الأربعة، وقالَ التِّرمذيُّ: والعمل عند أهل العلمِ عليه، وبه يقولُ الشَّافعي وسفيان الثوريُّ وأحمد وإسحاق، وقد صحَّحه الحاكم وقال: على شرطِ الشَّيخين، وابن حبَّان.
          وقال الحنفيَّةُ: لا يفطر، ولا يجب عليه القضاء بغلبة القيء وبخروجِه من فمه، قلَّ أو كثر، بخلاف تعمُّدِه فإنَّه يُفسِدُه وعليه القضاء، واعتبرَ أبو يوسف في إفساده امتلاء الفم في التعمُّد وفي عوده إلى الدَّاخل، سواء أعاده أم لم يُعِده لوجوب القضاء؛ لأنَّه إذا كان ملء الفم يُعدُّ خارجاً؛ لانتقاض الطَّهارة به، فيفسد الصوم، وإذا عاد حال كونه ملأ الفم يُعدُّ داخلاً لسبق اتِّصافه بالخروج حكماً، ولا كذلك إذا لم يملأْهُ، فلا يفسد، واعتبر محمَّدُ بنُ الحسن قصدَ الصائم وفعله في ابتداء القيء وفي عوده، سواءٌ كان ملء الفم أو لم يكن؛ لقولِه صلعم: ((مَن استقاءَ عمداً فعليهِ القضاءُ)) مِن غير تفصيلٍ بين القليل والكثير، وإذا أعادَه يُوجَد منه الصُّنع في الإدخال إلى الجوف، فيفسد به صومه وإن قلَّ القيء.
          وقال في ((الفتح)): أمَّا القيء فذهبَ الجمهور في التَّفرقة بين مَن سبقه فلا يفطرُ وبين مَن تعمَّده فيفطر، ونقل ابنُ المنذر الإجماع على بطلانِ الصَّوم بتعمُّد القيءِ، لكن نقلَ ابن بطَّالٍ عن ابن عبَّاسٍ وابن مسعودٍ: لا يفطر مطلقاً، وهو إحدى الرِّوايتين عن مالكٍ، واستدلَّ الأبهريُّ بإسقاط القضاء عن من تقيَّأ عمداً بأنَّه لا كفَّارة عليه على الأصحِّ عندهم، قال: فلو وجبَ القضَاء لوجبت الكفَّارة، وعكسه بعضُهم فقال: هذا يدلُّ على اختصاص الكفَّارة بالجِماع دون غيره من المفطرات، وارتكَبَ عطاء والأوزاعيُّ وأبو ثور فقالوا: يقضي ويكفِّر، ونقل ابن المنذر أيضاً الإجماعَ على ترك القضاء على مَن ذرعه القيء ولم يتعمَّده، إلَّا في إحدى الرِّوايتين عن الحسن.
          (وَالأَوَّلُ): أي: القولُ المنقول عن أبي هريرةَ بأنَّه لا يفطر بالقيء (أَصَحُّ): أي: من القولِ عنه بأنَّه يفطر، ولذا مرَّضه المصنِّف، وجوَّز أيضاً الكرمانيُّ أن يكون التَّقدير أو الإسنادُ الأوَّل أصحَّ، قال في ((الفتح)): ويمكنُ الجمع بين قول أبي هريرةَ إذا قالا: يفطر، وبين قوله: إنَّه يفطر بما فصَّل في حديثه هذا المرفوع، فيُحمَلُ قوله: قاء؛ أي: تعمَّد القيء واستدعاه، قال: وبهذا أيضاً يتأوَّل قوله في حديث أبي الدَّرداء الذي أخرجه أصحاب ((السُّنن)) مصحَّحاً: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم قاءَ فأفطر)) أي: استقاءَ عمداً، قال: وهو أولى مِن تأويل مَن أوَّلَه بأنَّ المعنى: قاء فضعفَ فأفطرَ.
          وقال الطحاويُّ: ليس في الحديثِ أنَّ القيءَ فطره، وإنَّما فيه: أنَّه قاء فأفطرَ بعد ذلك، قال: وتعقَّبَه ابن المنيِّرِ بأنَّ الحكم إذا عقبَ بالفاء دلَّ على أنَّه العلَّة كقولهم: سها فسجدَ.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ: الصَّوْمُ): وفي بعض الأصول الصَّحيحة: <الفطر> وعزاه القسطلانيُّ لأبي ذرٍّ وابن عساكرَ (مِمَّا دَخَلَ): أي: للجوف (وَلَيْسَ مِمَّا خَرَجَ): أمَّا أثر عكرمةَ فوصله ابنُ أبي شيبة عنه مثل ما هنا، وأمَّا أثر ابن عبَّاسٍ فوصله ابنُ أبي شيبة عنه في الحجامة للصَّائم، قال: ((الفطرُ ممَّا دخلَ، وليسَ ممَّا خرجَ، والوضوءُ ممَّا خرجَ، وليسَ ممَّا دخلَ)).
          (وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ): أي: ابن الخطَّاب (يَحْتَجِمُ وَهُوَ صَائِمٌ، ثُمَّ تَرَكَهُ، وَكَانَ): وفي بعض الأصول: <فكان> بالفاء؛ أي: ابن عمر (يَحْتَجِمُ بِاللَّيْلِ): أي: وهو صائمٌ نهاراً.
          وأثرُ ابن عمرَ وصله مالكٌ في ((الموطَّأ)) عن نافعٍ عن ابن عمرَ: أنَّه احتجم وهو صائمٌ، ثمَّ ترك ذلك، وكان إذا صام لم يحتجمْ حتَّى يفطرَ، قال في ((الفتح)): ورويناه في نسخة أحمدَ بن شبيب عن أبيه عن يونسَ عن الزهريِّ منقطعاً قال: ((كان ابنُ عمر يحتجمُ وهو صائمٌ في رمضان وغيره، ثمَّ تركه لأجلِ الضَّعف))، ووصله عبد الرزَّاق عن معمرٍ عن الزهريِّ عن سالمٍ عن أبيه.
          (وَاحْتَجَمَ أَبُو مُوسَى): أي: عبد الله بن قيسٍ الأشعريُّ (لَيْلاً): وصله ابنُ أبي شيبة عنه / مِن طريق أبي العاليةَ قال: دخلْتُ على أبي موسى، وهو أميرُ البصرة ممسياً، فوجدته يأكل تمراً وكامخاً وقد احتجمَ، فقلت له: ألا تحتجم نهاراً؟ قال: أتأمرني أن أهريقَ دمي وأنا صائمٌ.
          والكَامَخ _بالخاء المعجمة آخره قبلها ميم مفتوحة_: الإدام، كما في ((القاموس))، ورواه النسائيُّ والحاكم من طريق مطر الورَّاق عن بكرٍ أنَّ أبا رافعٍ قال: دخلت على أبي موسى وهو يحتجمُ ليلاً فقلت: ألا كان هذا نهاراً؟ فقال: أتأمرني أن أُريقَ دمي وأنا صائمٌ، وقد سمعت رسول الله صلعم يقول: ((أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ)).
          (وَيُذْكَرُ): بالبناء للمفعول (عَنْ سَعْدٍ): أي: ابن أبي وقَّاصٍ، ممَّا وصله مالكٌ في ((موطَّئه))، لكن بسندٍ فيه انقطاعٌ (وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ): بالقاف؛ أي: الأنصاريِّ، ممَّا وصله عبد الرزَّاق عن دينارٍ قال: حجمتُ زيد بن أرقم وهو صائمٌ، ودينار هذا قال في ((الفتح)): مولى جَرْم _بفتح الجيم وسكون الرَّاء_ لا يُعرَف إلَّا في هذا الأثرِ، وقال أبو الفتح الأزديُّ: لا يصحُّ حديثُه.
          (وَأُمِّ سَلَمَةَ): إحدى أمَّهات المؤمنين، ممَّا وصله ابنُ أبي شيبةَ عن مولًى لأمِّ سلمةَ أنَّه رآها تحتجمُ وهي صائمةٌ، لكنَّ مولاها مجهول الحال، كما في ((الفتح)) (أَنَّهُمْ): أي: المذكورين، وسقطَت: <أنهم> من أكثر الأصول (احْتَجَمُوا صِيَاماً): تقدَّم وصلُ آثارهم.
          (وَقَالَ بُكَيْرٌ): بالتصغير؛ أي: ابن عبد الله الأشج (عَنْ أُمِّ عَلْقَمَةَ): واسمها مرجانةُ، وذكرها ابن حبَّانَ في ((الثِّقات)) (كُنَّا نَحْتَجِمُ عِنْدَ عَائِشَةَ): أي: بنت الصدِّيق؛ أي: ونحن صيامٌ (فَلاَ تَنْهَى): بفتح المثنَّاة الفوقيَّة أوَّله؛ أي: فلا تنهانا عائشةُ عن ذلك، ولأبوي ذرٍّ والوقت: <فلا نُنهى> بضمِّ النون الأُولى، مبنيًّا للمفعول، وأثر بكيرٍ وصله المصنِّف في ((تاريخه)) عنها أنَّها قالت: كنَّا نحتجم عند عائشة ونحن صيامٌ، وبنو أخي عائشة فلا تنهاهم.
          (وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ): أي: البصري، مما وصله النَّسائي (عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ): أي: من الصَّحابة؛ أي: عن كثيرين، منهم: شدَّاد بن أوسٍ وأسامة بن زيدٍ وأبو هريرة وثوبان ومعقل بن يسارٍ (مَرْفُوعاً): أي: إلى النبيِّ صلعم (فَقَالَ): أي: النبيُّ، بالفاء، وسقطت من بعض الأصولِ، ولأبي ذرٍّ بإسقاطهما (أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ): يحتملُ أنَّ الحسن سمعه من الصَّحابة المذكورين، فلا يكون منقطعاً، قاله القسطلانيُّ، لكن قال في ((الفتح)): لم يسمعِ الحسنُ مِن أكثر المذكورين.
          (وَقَالَ لِي): أي: للمصنِّف (عَيَّاشٌ): بفتح العين المهملة وتشديد المثنَّاة التحتية وبالشِّين المعجمة آخره؛ أي: ابن الوليد الرقام البصريُّ (حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى): هو: ابنُ عبد الأعلى أيضاً السَّاميُّ البصريُّ، قال: (حَدَّثَنَا يُونُسُ): أي: ابن عبيدٍ البصريُّ التَّابعيُّ (عَنِ الْحَسَنِ): أي: البصريِّ (مِثْلَهُ): أي: مثلَ الحديث السَّابق آنفاً بلفظ: ((أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ)) (قِيلَ لَهُ): أي: للحسن البصريِّ، ولم نعلم القائلَ له (عَنِ النَّبِيِّ صلعم): أي: روى هذا الحديث عن النبيِّ (قَالَ): أي: الحسنُ (نَعَمْ): أي: رُوي عن النبيِّ عليه السلام (ثُمَّ قَالَ): أي: الحسنُ (اللَّهُ أَعْلَمُ): أي: لتردُّده بعد جزمِه أوَّل الأمر.
          قال في ((الفتح)): وهذا متابعٌ لأبي حرَّة عن الحسن، وقد أخرجَه البخاريُّ في ((تاريخه)) والبيهقيُّ أيضاً من طريقه بسنده عن الحسن عن غير واحدٍ، ثمَّ ذكر طرقاً مختلفةً عن الحسن، قال: والاختلافُ على الحسن في هذا الحديث واضحٌ، لكن نقل الترمذيُّ في ((العلل الكبير)) عن البخاريِّ فقال: يحتمل أن يكون سمعَه من غير واحدٍ من الصَّحابة، وقال الدارقطنيُّ في ((العلل)): إن كان قولُ الحسن: عن غير واحدٍ من الصَّحابة محفوظاً صحَّتِ الأقوال كلُّها؛ يريدُ: فلا اضطرابَ، وإلَّا فالحسنُ لم يسمعْ من أكثر المذكورين.
          قال: والظَّاهر من السِّياق أنَّ الحسن كان يشكِّكُ في رفعِه، وكأنَّه حصل له بعد الجزمِ تردُّدٌ، قال: وحمل الكرمانيُّ جزمَه على وثوقِه بخبر مَن أخبره به، وتردُّدُه؛ لكونه خبر واحدٍ فلا يفيدُ اليقين، قال: وهو حملٌ في غايةِ البعد، قال: ونقل التِّرمذيُّ أيضاً عن البُخاريِّ أنَّه قال: ليس في هذا الباب أصحُّ من حديثِ شدَّاد وثوبان.
          قلْتُ: فكيف بما فيهما من الاختلافِ؛ يعني: عن أبي قلابةَ، قال: كلاهما عندِي صحيحٌ؛ لأنَّ يحيى بن أبي كثيرٍ روى عن أبي قلابةَ عن أبي أسماءَ عن ثوبان، وعن أبي قلابةَ عن أبي الأشعث عن شدَّاد روى الحديثين جميعاً؛ يعني: فانتفى الاضطرابُ، وتعيَّن الجمع بذلك، انتهى.
          ثمَّ قال: وقال ابنُ خزيمة: صحَّ الحديثان جميعاً، وكذا قال ابن حبَّان والحاكم، وأطنبَ النسائيُّ في تخريج طرفِ هذا المتن وبيانِ الاختلاف فأجادَ، وقال أحمدُ: أصحُّ شيءٍ في باب: ((أفطرَ الحاجمُ والمحجُومُ)) حديثُ رافعِ بن خَدِيجٍ، لكن عارض ابنُ معينٍ أحمدَ في هذا فقال: حديثُ رافعٍ أضعفُها.
          وقال البخاريُّ: هو غير محفوظٍ، وقال ابنُ أبي حاتمٍ / عن أبيه: هو عندي باطلٌ، انتهى.
          وقال الشَّافعيُّ في ((اختلاف الحديث)) بعد أن أخرجَ حديث شدَّاد بلفظ: ((كنَّا مع رسول الله في زمان الفتح، فرأى رجلاً يحتجم لثمانِ عشرةَ خلَتْ من رمضان، فقال وهو آخذٌ بيدي: أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ))، ثمَّ ساق حديث ابن عبَّاسٍ: ((أنَّه عليه السلام احتجمَ وهو صائمٌ))، قال: وحديثُ ابن عبَّاسٍ أمثلُهما إسناداً، فإن توقَّى أحدٌ الحجامةَ كان أحبَّ إليَّ احتياطاً، والقياسُ مع حديث ابن عبَّاسٍ والذي أحفظُ عن الصَّحابة والتَّابعين وعامَّة أهلِ العلمِ: أنَّه لا يفطرُ أحدٌ بالحجامةِ، انتهى.
          قال في ((الفتحِ)): وكأنَّ هذا هو السِّرُّ في إيراد البخاريِّ؛ لحديثِ ابن عبَّاسٍ عقبَ حديث: ((أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ))، ثمَّ قال: وأوَّلَ بعضُهم حديثَ: ((أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ)) أنَّ المرادَ به أنَّهما سيفطران بالحجامة كقولِهِ تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف:36]؛ أي: ما يؤولُ إليه، قال: فلا يخفَى تكلُّفُ هذا.
          وقال البغويُّ في ((شرح السُّنَّة)): أي: تعرُّضاً للإفطار؛ أمَّا الحاجمُ فلأنَّه لا يأمنُ وصولَ شيءٍ من الدَّم إلى جوفه عند المصنِّف، وأمَّا المحجوم فلأنَّه لا يأمنُ ضعفَ قوَّته بخروج الدَّم، فيؤولُ أمره إلى أن يفطرَ، وقيل: المعنى فعلا فعلاً مكروهاً، وهو الحجامةُ فصارَا كأنَّهما غير متلبِّسين بالعبادةِ.
          وقال ابنُ خزيمةَ: جاء بعضُهم بأعجوبةٍ، فزعمَ أنَّه عليه السَّلام إنَّما قال: ((أفطرَ الحاجمُ والمحجومُ)) لأنَّهما كانَا يغتابان، قال: فإذا قيلَ له: فالغيبة تُفطِر الصَّائم؟ قال: لا، قال: فعلى هذا لا يخرج مِن مخالفةِ الحديث بلا شبهةٍ، انتهى.
          وقال ابنُ حزمٍ: صحَّ حديث: ((أفطر الحاجمُ والمحجوم)) بلا ريبٍ، لكن رجونا من حديث أبي سعيدٍ بسندٍ صحيحٍ: أرخصَ النَّبيُّ صلعم في الحجَامة للصَّائم، فوجب الأخذُ به؛ لأنَّ الرُّخصَة إنما تكون بعد العزيمة، فدلَّ على نسخِ الفطر بالحجامة، سواءٌ كان حاجماً أو محجوماً، انتهى.
          قال في ((الفتح)): وأخرج حديث أبي سعيدٍ النَّسائيُّ وابن خزيمة والدَّارقطنيُّ، ورجاله ثقاتٍ، لكن اختلف في رفعِه ووقفهِ، لكن له شاهدٌ من حديث أنسٍ، أخرجه الدارقطنيُّ بلفظ: أوَّل ما كُرِهَتِ الحجامة للصَّائم أنَّ جعفر بن أبي طالبٍ احتجم وهو صائمٌ، فمرَّ به رسول الله فقال: ((أفطرَ هذانِ))، ثمَّ رخَّص رسولُ الله بعدُ في الحجامة للصَّائم، وكان أنسٌ يحتجم وهو صائمٌ. ورواتُه كلُّهم من رجال البخاريِّ، لكن في متنه ما يُنكَر؛ لأنَّ فيه أنَّ ذلك كان في الفتح، وجعفر كان قُتل، ومِن أحسن ما وردَ في ذلك ما رواه عبدُ الرزَّاق وأبو داود بسندٍ صحيحٍ عن رجلٍ من أصحاب رسولِ الله، قال: نهى النَّبيُّ عن الحجَامة للصَّائم، وعن المواصَلة، ولم يحرِّمهما إبقاءً على أصحابِهِ، و((إبقاء))... إلخ علَّة، انتهى.
          فقد روى ابنُ أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن أصحابِ محمَّد صلعم قالوا: إنَّما نهى النَّبيُّ عن الحجامة للصَّائم وكرهها للضَّعف، انتهى.
          والمطابقة في هذه الآثار ظاهرةٌ.