الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: الحائض تترك الصوم والصلاة

          ░41▒ (باب): بالتَّنوين وتركِه، فقوله: (الْحَائِضِ): مرفوعٌ على الوجه الأوَّلِ بالابتداء، ومجرورٌ على الثَّاني بالإضافة على تقديرِ نحو: حكم.
          وجملة: (تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلاَةَ): خبرٌ على الأوَّلِ، ومستأنفةٌ استئنافاً بيانيًّا على الثَّاني، فافهم، قال الزَّين ابنُ المنيِّرِ وتبعوه: تعبيرُه بالتَّرك للإشارة إلى أنَّه ممكنٌ حسًّا، وإنَّما تتركهما اختياراً لمنع الشَّارعِ لها من مباشرتِهما، انتهى.
          فيحرم عليها الصَّومُ والصَّلاةُ، ولا يصحَّان منها، ومثلُها في ذلك النفساء، فليتأمَّل.
          وقال ابنُ المنيِّرِ أيضاً ما محصَّله على ما في ((الفتح)): إنَّ الترجمةَ لم تتضمَّن حكمَ القضاء؛ ليطابقَ حديثَ الباب، إذ ليس فيه تعرُّضٌ لذلك، انتهى.
          وأقولُ: مرادُه: أنَّ المطابقة بين التَّرجمة والحديث حاصلةٌ لعدم تعرُّضِهِما لحكم القضاء، فلو قالَ: فيطابق بالفاء؛ لكانَ أظهرَ، فتدبَّر.
          والأَولى أن يُقال: المطابقةُ بينهما لدلالتِهما على تركِ الحائضِ الصَّومَ والصَّلاةَ؛ أي: أداءً، وأمَّا القضاء للصَّوم دون الصلاة، فهو معلومٌ من دليلٍ آخَرَ كما تقدَّم.
          ويشير إليه أيضاً قولُه: (وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ): بكسر الزَّاي وتخفيف النون؛ أي: عبدُ الله بن ذكوانَ، ووقع في نسخة ابنِ بطَّالٍ: <وقال أبو الدَّرداء> بدل: ((أبو الزِّناد))، والموجودُ في الأصول الَّتي رأيناها: ((أبو الزِّناد)) وعليها شرحَ غيرُه.
          (إِنَّ السُّنَنَ): جمع سُنَّةٍ؛ بمعنى: الطَّريقة (وَوُجُوهَ الْحَقِّ): جمع وجهٍ؛ بمعنى: الأمور الشرعيَّة الشَّاملة للواجب والسُّنَّة، فعطفُها على ((السُّنن)) من عطفِ المرادف (لَتَأْتِي): بلام التأكيدِ المفتوحَة؛ أي: لتجيء وتكون (كَثِيراً عَلَى خِلاَفِ الرَّأْيِ): أي: القياس.
          قالَ في ((الفتح)): كأنَّهُ يشيرُ إلى قولِ عليٍّ: لو كان الدِّينُ بالرَّأي لكانَ باطنُ الخفِّ أحقَّ بالمسحِ من أعلاه، أخرجه أحمدُ وأبو داودَ والدارقطنيُّ، ورجالُ إسنادِهِ ثقاتٌ، ونظائرُه من الشَّرعيات كثيرة، انتهى.
          (فَمَا يَجِدُ المُسْلِمُونَ بُدًّا): بضمِّ الموحَّدة وتشديد الدَّال؛ أي: غناءً وافتراقاً (مِنِ اتِّبَاعِهَا): قال في ((المصباح)): لا بدَّ من كذا؛ أي: لا محيدَ عنه، ولا يُعرَف استعماله إلَّا مقروناً بالنَّفي، وبدَّدتُ الشَّيءَ بدًّا مِن باب قَتَلَ: فرَّقتُه، والتَّثقيل مبالغةٌ وتكثيرٌ، واستبدَّ بالأمرِ: انفردَ به من غيرِ مشاركٍ له فيه، انتهى.
          و((اتَّباعها)) بتشديد المثنَّاة الفوقيَّة، ويجوز إسكانُها، وضميرُها بالإفرادِ عائدٌ على ((السُّنن)) بالمعنى المارِّ؛ أي: يلزم اتِّباع الشارعِ فيها والتعبُّد بها من غير اعتراضٍ وإن لم تُعلمِ الحكمةُ فيها.
          (مِنْ ذَلِكَ): أي: مِن الذي جاء على خلافِ الرَّأي (أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي): بكسر الضَّادِ (الصِّيَامَ): وفي كثيرٍ من الأصول: <الصَّوم> (وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ): أي: إذا طهُرَت، فافتراقُ حكمِها في القضاء عند أبي الزِّناد تعبُّديٌّ يُفوَّض أمرُه إلى الشَّارع، وهذا في غالبِ الأشياء كما أشارَ إليه بقولِه: ((كثيراً))، وكان مقتضى الرَّأيِ أن يستويا في القضاءِ أيضاً؛ لأنَّ كلًّا منهما عبادةٌ تُرِكت لعذرٍ.
          لكن فرَّق الفقهاءُ بينهما فأبدَوا لذلك حكمةً بعدم تكرارِ الصَّوم، فلا حرجَ في قضائِه كالحرجِ في قضاء الصَّلاة؛ إذِ المرأةُ كما قال ابنُ بطَّالٍ: نصفُ دهرها أو نحوه حائضٌ، فيلزمُ أنَّ النَّاس يصلُّونَ صلاةً واحدةً، وتصلِّي هي في كلِّ صلاةٍ صلاتين، فتختلفُ أحوالُ النِّساء والرِّجال، انتهى، وقيل: لأنَّ الحائضَ لا تضعف عن الصِّيام، فأُمِرت بإعادته عملاً بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا} [البقرة:184] والنَّزفُ مرضٌ بخلاف الصَّلاة، فإنَّها أكثرُ الفرائض ترداداً فخفف عنها كما مرَّ، فتأمَّل، وممَّا يفرَّق فيه في حقِّها _كما في ((الفتحِ))_ بين الصَّوم والصَّلاة أنَّها لو طهرت قُبَيل الفجر ونوت صحَّ صومُها في قولِ الجمهورِ، ولا يتوقَّفُ على الغسلِ بخلافِ الصَّلاة، انتهى.
          وقال فيه أيضاً: وزعمَ المهلَّبُ أنَّ السَّببَ في منعِ الحائضِ مِن الصَّوم أنَّ خروجَ الدَّم يُحدِثُ ضَعفاً في النَّفس غالباً، فاستعملَ هذا الغالب في جميعِ الأحوالِ، فلمَّا كان الضَّعفُ يبيحُ الفطرَ ويُوجِبُ القضاءَ، كان كذلك الحيضُ، قال: ولا يخفَى ضَعفُ هذا المأخذِ، فإنَّ المريضَ لو تحاملَ فصامَ صحَّ صومُه، بخلافِ الحائض، وأنَّ المستحاضةَ في نزف الدَّم أشدُّ مِن الحائضِ، وقد أُبيحَ لها الصَّوم، انتهى.
          وقال الزَّين ابن المنيِّرِ: نظر أبو الزِّناد إلى أنَّ الحيضَ مانعٌ من هاتَين العبادَتَين، قال: وما سَلَبَ الأهليَّة استحال أن يتوجَّه به خطابُ الاقتضَاءِ، وما يمنعُ صحَّةَ الفعلِ يمنع الوجوبَ، فلذلك استبعدَ الفرق بين الصَّلاة / والصَّوم، فأحالَ بذلك على اتِّباع السُّنَّة والتَّعبُّد المحضِ، انتهى.
          واختار إمامُ الحرمين: أنَّ المتَّبعَ في ذلك هو النصُّ، وأنَّ كلَّ شيءٍ ذكروه من الفرقِ ضعيفٌ، قال في ((الفتح)): وتقدَّم في كتاب الحيضِ سؤالُ معاذةَ من عائشةَ عن الفرق المذكور، وأنكرتْ عائشةُ عليها السُّؤال خشيةَ أنَّها أخذته عن الخوارج الَّذين جرَت عادتُهم باعتراض السُّؤال بآرائِهم، ولم تزدْها على الحوالة على النَّصِّ، وكأنَّها قالت لها: دعي السُّؤال عن العلَّة إلى ما هو أهمُّ، وهو الانقيادُ إلى الشَّارع، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ: بأنَّ السُّؤال لعائشةَ إنَّما وقعَ من امرأةٍ حدَّثَتْ به معاذةُ عنها، وأجابَ في ((الانتقاض)): بأنَّ المرأةَ هي معاذةُ كما صرَّح به في مسلمٌ قال: ((وكنَّتْ عن نفسها بالمرأة))، انتهى ملخَّصاً.