الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله جل ذكره: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم}

          ░15▒ (بَابُ قَوْلِ اللَّهِ ╡): أي: ذكر قوله تعالى: ({أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}...إلى قوله: {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}): كذا لأبي ذرٍّ، وذكر الآية غيره إلى هنا، وجعلها البخاريُّ ترجمةً؛ لبيان ما كان عليه الحالُ من حيثُ الصِّيامُ قبل نزولها، ولمَّا كانت منزلة على أسبابٍ تتعلَّق بالصوم، عجَّل بها المصنِّف هنا، وإلَّا فقد ذكرَها أيضاً في التفسير، ويُؤخذ ممَّا استقرَّ عليه الحال من سبب نزولها في حقِّ قيسِ بن صرمةَ أو عمر بن الخطَّاب، كما يأتي ابتداءُ مشروعيَّةِ السحور، وهو المقصودُ هنا؛ لأنَّه جعل هذه الترجمةَ مقدَّمةً لأبواب السُّحور، قاله في ((فتح الباري)).
          ونتكلَّمُ على المذكور من الآية هنا على سبيل الإيجازِ، فقوله تعالى: ({أُحِلَّ لَكُمْ}) بالبناءِ للمفعول، {الرَّفَثُ}: نائبه؛ أي: أباح اللهُ ╡ لكم إتيان نسائِكم ليلة الصِّيام، وتقدَّم ما في الرفث من المعاني في باب فضل الصوم وفي غيرِه، والمراد به هنا: الجِماع، كنَّى به عنه؛ لأنه لا يكاد يخلو من رفثٍ، وهو الإفصاح بما يجب أن يُكنى عنه، وعدَّاه بإلى؛ لتضمُّنه معنى الإفضاء، وآثره عليه؛ لتقبيحِ ما ارتكبوه، ولذلك سمَّاه: خيانةً، وقرئ: {الرفوث} قاله البيضاويُّ، وقُرِئَ أيضاً: {الرفْث} بسكون الفاءِ.
          وقوله تعالى: ({هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}) مستأنفٌ لبيان سبب الإحلال، وهو قلَّةُ الصبرِ عنهنَّ وصعوبة اجتنابهنَّ؛ لشدَّة الملابسة وكثرة الملامسة وتضاجعهما في الفراش الواحد واشتمال كلِّ واحدٍ منهما على صاحبِه شبه باللِّباسِ على سبيل المجاز، أو لأنَّ كلَّ واحدٍ / منهما يستر صاحبه ويمنعه عن الفجور، والعربُ تُسمِّي المرأة لباساً وإزاراً.
          قال الشاعر الجعديُّ:
إذا ما الضَّجيع ثنى جيدها                     تداعت فكانت عليه لباسا
          ويُروى:
إذا ما الضَّجيعُ ثنى عطفها                     تثنَّت فكانت عليه لباساً
          وقال آخرُ:
ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولا                     فدًى لك من أخي ثقةٍ إزارُ
          قال أهل اللُّغة: المراد: امرأته، وقيل: أراد نفسه.
          ({عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ}): أي: تخونون أنفسكم وتظلمونها بتعرضها للعقاب، فتفعلُون ما حرم عليكُم من الجِماع والأكل والشُّرب الَّذي حرَّمناه عليكم بعد النومِ، كما كان في صدر الإسلام، وعلى مَن كان قبلكم ({فَتَابَ عَلَيْكُمْ}): أي: لِما اقترفْتم من المجامعةِ حيثُ تبْتُم وعفا عنكم؛ أي: ومحى عنكم أثرَه من عطف المسبِّب على سببه، أو المعنى: أباحَ لكم ما حرَّم عليكم، فلذا رتَّب عليه فالآن ({بَاشِرُوهُنَّ}): أي: جامعُوهنَّ، لنسخِهِ عنكم التَّحريم، وفيه نسخُ السُّنَّة بالقرآن.
          ({وَابْتَغُوا}): أي: واطلبُوا، قال في ((الكشَّاف)): وقرأ ابنُ عبَّاسٍ: {واتَّبعوا} وقرأ الأعمش: {وأتوا} ({مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}) أي: ما قدَّره لكم، وأثبتَه في اللَّوحِ، قال شيخُ الإسلام: مِن الجِماع أو مِن الولد، والمرادُ: أنَّ المباشرَ ينبغي أن يكونَ الولد غرضه الأصليَّ من الجماعِ، فإنَّه الحكمة الأصليَّة مِن خلق الشَّهوة، ومشروعيَّةُ النِّكاح لا مجرَّد قضاء الوطر والشُّهوة، وقيل: المرادُ النهي عن إتيان المرأة في دُبرها، وقيل: النَّهي عن العزلِ، وقال قتادةُ: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} من الإباحةِ بعد الحظرِ، وأمَّا ما قيلَ: إنَّ معناه: واطلبُوا ليلة القدرِ وما كتب الله مِن الثَّواب فيها إن أصبتمُوها وقمتمُوها، فقال في ((الكشَّاف)) عنه: إنَّه قريبٌ مِن بِدعِ التَّفاسير، انتهى.