الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {وعلى الذين يطيقونه فدية}

          ░39▒ (بَابٌ): بالتَّنوين ({وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}): ووقع في بعض الأصولِ: <بابُ قولِه تعالى: {وَعَلَى الَّذِيْنَ}...إلخ>، قال في ((الكشَّاف)): أي: وعلى المطيقين للصِّيام الَّذين لا عذرَ لهم إن أفطروا فديةٌ، وهي مبتدأٌ مؤخرٌ، والجارُّ والمجرور خبرٌ مقدَّم، وبيَّنها تعالى بقوله: {طَعَامُ مِسْكِيْنٍ} وهو نصف صاعٍ مِن بُرِّ، أو صاعٌ من شعيرٍ عن كلِّ يومٍ لمسكينٍ عند فقهاء العراق، وذهب فقهاءُ الحجاز إلى أنَّها مدُّ طعامٍ مِن غالب قوت البلد، وقال ابن عبَّاسٍ: يُعطَى لكلِّ مسكينٍ عشاؤه وسحورُه.
          تنبيه: قرأ نافعٌ وابن عامرٍ هنا وفي المائدةِ بإضافةِ: ▬فِدْيَةُ↨ إلى ▬طَعَامٍ↨ وجمع ▬مَسَاكِين↨، وقرأ الباقون بتنوينِ {فِدْيَةٌ} ورفع {طَعَامُ} بدلاً منها وإفراد {مِسْكِينٍ}، وفي {يُطِيقُونَهُ} قراءاتٌ، أحدها المشهورة: بضمِّ أوَّله، من الإطاقة.
          ثانيها: قراءة ابنِ عبَّاسٍ كما في ((البغويِّ)): ▬يُطَوِّقُونَهُ↨ بضمِّ أوَّله وتخفيف الطَّاء / وتشديد الواو، من التَّطويق.
          ثالثها: ▬يَتَطَوَّقونه↨ بفوقيَّةٍ بعد التحتيَّة المفتوحة وتشديد الواو، ونُسبت أيضاً لابن عبَّاسٍ، وهما بمعنى يكلَّفونه أو يطوِّقونه.
          رابعها: ▬يطَّوِّقونه↨ بطاءٍ مشدَّدةٍ بعد التحتيَّة أوَّله وتشديد الواو، مبنيًّا للفاعل.
          خامسها: ▬يُطيَّقونه↨ بضمِّ أوَّله.
          سادسها: ▬يتَطَيَّقونه↨ بفوقيَّةٍ بعد التحتيَّة والياء مشدَّدة فيهما.
          وأصلهما كما في ((الكشَّاف)): يطيوقونه ويتطيوقونه: فأُدغمت الياءُ في الواو بعد قلبها ياءً.
          قال البيضاويُّ: رُخِّص لهم في ذلك أوَّل الأمر لما أُمِروا بالصَّوم فاشتدَّ عليهم؛ لأنَّهم لم يتعوَّدوه، ثمَّ نُسِخ، ثمَّ قال: وعلى هذه القراءات يحتملُ معنًى ثانياً وهو الرُّخصةُ لمن يتعبُه الصَّوم ويجهده، وهم الشُّيوخ والعجائز في الإفطار والفدية، فيكون ثابتاً قال: وقد أوِّل به القراءةُ المشهورة؛ أي: يصومونه جهدَهم وطاقتَهم، انتهى.
          وقال البغويُّ: اختلف العلماء في هذه الآية وحكمها، فذهب أكثرُهم إلى أنَّ الآية منسوخةٌ، وهو قول ابن عمر وسلمةَ بن الأكوع وغيرهما، وذلك أنَّهم كانوا في ابتداء الإسلام مخيَّرينَ بين أن يصوموا وبين أن يفطروا ويفتدوا، فخيَّرهم الله لئلَّا يشقَّ عليهم؛ لأنَّهم لم يتعوَّدوا الصَّوم، ثمَّ نُسخ التَّخير ونزلت العزيمةُ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
          وقال قتادةُ: هي خاصَّةٌ في الشَّيخ الكبير الذي يطيقُ الصومَ لكنه يشقُّ عليه، رُخِّص له أن يفطرَ ويفديَ، ثمَّ نُسِخ، وقال الحسن: هذا في المريض الَّذي به ما يقعُ عليه اسم المرض وهو مستطيعٌ للصَّوم، خُيِّرَ بين أن يصومَ وبين أن يفطرَ، ثمَّ نُسِخ بقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، وثبتَتِ الرُّخصة في الَّذين لا يطيقونَه.
          وذهب جماعةٌ إلى أنَّ الآية محكمةٌ غير منسوخةٍ، ومعناه: وعلى الَّذين يطيقونه في حال الشَّباب، فعجزوا عنه بعد الكِبَر فعليهم الفديةُ بدل الصَّوم، انتهى.
          وقال بعضُهم: الأصلُ لا يطيقونه، ثمَّ حُذِفت لا لكنَّها مراعاةٌ، انتهى، فليتأمَّل.
          وقوله: (قَالَ ابْنُ عُمَرَ...) إلخ: ذكره المصنِّف؛ لبيانِ أنَّ الآية منسوخةٌ، وقد وصل أثر ابن عمر بن الخطَّاب المصنِّفُ آخرَ الباب (وَسَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ): نسبه لجدِّه لشهرتِه به، وإلَّا فهو كما في ((التَّقريب)): سلمة بن عمرو بن الأكوع، وقد وصلَ أثرَه المصنِّف في التَّفسير بلفظ: ((لمَّا نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} كان مَن أراد أن يفطرَ أفطر وافتدى حتَّى نزلت الآية التي بعدها)).
          فـ(نَسَخَتْهَا {شَهْرُ رَمَضَانَ}): أي: رفع حكم الآيةِ الأولى بهذه الآيةِ باعتبار اشتمالها على النَّاسخ وهو {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} فضميرُ المفعولِ عائدٌ إلى آية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فلذا أنَّثَ الضَّمير و{شَهْرُ}... إلخ فاعل ((نسختها))، ولحقَت فعله تاء التَّأنيث لإرادةِ آية {شَهْرُ رَمَضَانَ} أو الجملةُ، و{شَهْرُ} وإن كانت فاعل نسخت، لكنَّها محكيَّةٌ لآية {شَهْرُ رَمْضَانَ} في الآية مبتدأٌ خبرُه {الَّذِيْ أُنْزِلَ}، أو هو صفةٌ، والخبر {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، أو هو خبرٌ لمحذوفٍ؛ أي: ذلكم شهر رمضان، أو بدلٌ من الصِّيام على تقدير مضافٍ؛ أي: صيام شهر رمضان.
          قال في ((الكشَّاف)): وقُرئ بنصب ▬شَهْرَ↨ على تقدير: صوموا، أو على الإبدال من {أَيَّامًا}، أو على أنَّه مفعول {وَأَنْ تَصُومُوا}.
          وقوله: ({الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}): أي: جملةً مِن اللَّوح المحفوظ إلى السَّماء الدُّنيا، وفي ليلة القدر منه، ثمَّ نزل إلى الأرض منجَّماً في ثلاثةٍ وعشرين سنةً بحسب الوقائع، وقيلَ: {أُنْزِلَ فِيْهِ}؛ أي: ابتُدِئ إنزالُه فيه، وقيلَ: {أُنْزِلَ فِيْهِ} أي: في شأنه القرآن، وهو قولُهُ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} كما تقول: أُنزِلَ في عمرَ كذا، وفي عليٍّ كذا.
          وعن النَّبيِّ عليه السَّلام: ((نزلَتْ صحفُ إبراهيمَ أوَّلَ ليلةٍ مِن رمضان، وأُنزِلَت التَّوراةُ لستٍّ مضيْنَ، والإنجيلُ لثلاث عشرَة، والقرآنُ لأربعٍ وعشرينَ))، قاله في ((الكشَّاف))، وقال البغويُّ: ورُوي عن أبي ذرٍّ عن النَّبيِّ قال: ((أُنزلَت صحفُ إبراهيمَ في ثلاثِ ليالٍ مضين من شهر رمضان، وأُنزل الزَّبور لثمَاني عشرةَ ليلةٍ مضت منه))، انتهى، وقيل: إنَّ بقيَّة كُتب اللهُ كانَ إنزالها فيه أيضاً، فاعرفْه.
          قال البغويُّ: وسُمِّيَ القرآنَ؛ لأنَّه يجمع السُّور والآي والحروف والقصص والأمر والنَّهي والوعد والوعيد، وأصلُ القرء: الجمعُ، وقد تُحذَف الهمزة، فيُقال: قريْتُ الماء في الحوضِ: جمعته، قال: وقرأ ابنُ كثير: ▬القرَان↨ بفتح الراء غير مهموزٍ، وكذلك كان يقرأُ الشَّافعيُّ ويقول: ليس هو مِن القراءة، ولكنَّه اسمٌ لهذا الكتاب كالتَّوراة / والإنجيل، انتهى.
          ({هُدًى}): حالٌ من {القرآن} أي: هادياً؛ أي: من الضَّلالةِ، وقال البغويُّ: {هُدًى} في محلِّ نصبٍ على القطع؛ لأنَّ {القَرْآنُ} معرفةٌ و{هُدًى} نكرةٌ، انتهى.
          ({لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ}): أي: دلالاتٍ واضحاتٍ ({مِنَ الْهُدَى}): أي: الهداية إلى الحقِّ ({وَالْفُرْقَانِ}): أي: لأنَّه يفرِّق بين الحقِّ والباطل لِما فيه من بيان الأحكام، فلا يُغني هدىً عن آياتٍ، فلا يكون تأكيداً كما قيلَ.
          ({فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}) قال البيضاويُّ: فمن حضرَ في الشَّهر ولم يكن مسافراً فليصمْ فيه، والأصلُ: فمَن شهدَ فيه فليصمْ فيه، لكن وضع المظهَر موضع المضمَر الأوَّل للتَّعظيم، ونُصِبَ على الظَّرفِ وحُذف الجارُّ، ونُصب الضَّمير الثَّاني على الاتِّساع، وقيل: فمَن شهد منكم هلالَ الشَّهر فليصمه على أنَّه مفعولٌ به، كقولك: شهدْتُ الجمعة؛ أي: صلاتَها، فيكون: ({وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}) مخصِّصاً له؛ لأنَّ المسافر والمريض ممَّن شهد الشَّهر، قال: ولعلَّ تكريره لذلك، أو لئلَّا يتوهَّمَ به كما نُسِخَ قرينُه، انتهى، وبما ذكره يُعلَم الجواب عن قول ((الكشَّاف))، ولا يكون مفعولاً به كقولك: شهدت الجمعة؛ لأنَّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشَّهر، انتهى.
          وجملةُ: {فَعِدَّةٌ} أي: فعليه عدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخرَ؛ أي: قضاءً، جوابُ {مِن} الشَّرطيَّة، ولا يُشترط في القضاء التَّتابع عند الجمهور بل يُسنُّ، وعلى ذلك حمل قراءة أُبي: ▬فعدَّةٌ من أيَّام أُخَر متتابعات↨، وسيأتي في الباب الآتي بيانُ الخلاف في ذلك مستوفًى.
          ({يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]): وقرأ أبو جعفرٍ كما في ((البغويِّ)): ▬العسُر↨ و▬اليسُر↨ ونحوهما بضمِّ السين وقرأ الباقون: بالسُّكون، انتهى، والجملتان مستأنفتان استئنافاً بيانيًّا؛ يعني: أنَّه تعالى أباح الفطر للمريض والمسافر؛ لإرادته اليسر بهذه الأمَّة لا العسرَ، فهو فيهما رخصةٌ خلافاً لمن زعمَ أنَّه عزيمةٌ، وأنَّه إذا صام فيهما فعليه الإعادة، وتقدَّم ردُّه.
          وقوله: ({وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}): أي: عدَّة شهر رمضان، وقرأ أبو بكرٍ: بتشديد الميم، وقرأه الباقون: بتخفيفها، قال البغويُّ: وهو الاختيار لقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، انتهى، فتدبَّر.
          ({وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}): أي: إليه، قال البيضاويُّ: والمعنى بالتَّكبيرِ: تعظيم الله تعالى بالحمد والثَّناء عليه، ولذلك عُدِّي بـ{عَلَى}، وقيل: تكبير يوم الفطر، وقيل: عند الإهلال، و{ما} تحتملُ المصدر والخبر؛ أي: الَّذي هداكم إليه، انتهى، والأولى الاقتصار على المصدريَّة؛ لأنَّ حذف العائد مع الخبريَّة لا يطَّرد هنا، ويحتمل أنَّ {عَلَى} للتَّعليل، بل هو أظهرُ من بقائها على أصلها، فتأمَّل.
          ({وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}): أي: الله تعالى على نعمه، ومنها: التَّيسير عليكم بإباحة الفطر للمريض والمسافر، وهذه الثَّلاثة عللٌ لفعلٍ محذوفٍ دلَّ عليه ما قبله؛ أي: وشرع تعالى لكم ما ذكر من أمر الشَّاهد بصوم رمضان، ومن المرخَّص بالقضاء، ومراعاة عدَّة ما أفطر فيه على سبيل اللَّفِّ والنَّشر، قال في ((الكشَّاف)): وهذا نوعٌ مِن اللَّفِّ لطيف المسلك، لا يكاد يهتدي إلى تبيُّنه إلا النُّقَّاب المحدَث من علماء البيان، وقيل: هي عطفٌ على علَّةٍ مقدَّرةٍ نحو سهَّل عليكم، وقيل: عطفٌ على اليسر.
          تنبيه: ما شرحنا عليه من ذكر الآيات بكمَالها هو ما في العينيِّ والقسطلانيِّ، وقال الثَّاني: لفظ رواية ابن عساكرَ: <{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}...إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}> وزادَ أبو ذرٍّ: <{عَلَى مَا هَدَاكُمْ}>، انتهى.
          وبالسند قال البخاريُّ تعليقاً:
          (وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ): بنونٍ فميم فتحتيَّة فراء، مصغَّراً، وهو عبد الله (حَدَّثَنَا): ولابنِ عساكرَ: <أخبرنا> (الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو): بفتح العين (ابْنُ مُرَّةَ): بضمِّ الميم وتشديد الرَّاء، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى): بفتح اللَّامين بينهما تحتيَّةٌ ساكنةٌ، هو: عبد الرحمن.
          (قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلعم): أشارَ بذلك إلى أنَّه رواه عن جماعةٍ من الصَّحابة، ولا يضرُّ عدم معرفة أعيانهم؛ لأنَّ الصَّحابة كلَّهم عدولٌ، وقد رأى ابن أبي ليلى كثيراً منهم كعمر وعثمان وعليٍّ وغيرهم ♥ (نَزَلَ رَمَضَانُ): أي: حدَّثونا أنَّه نزل صومه (فَشَقَّ عَلَيْهِمْ): أي: صومه (فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ): أي: عنهم (كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِيناً): بالمعنى الشَّامل للفقير.
          وجملة: (تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ): خبر ((كان)) (وَرُخِّصَ): ببنائه للمفعول، ويحتمل بناؤه للفاعل (لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَنَسَخَتْهَا): أي: هذه الآية نسختها آيةُ ({وَأَنْ تَصُومُوا}): قال البيضاويُّ: {وَأَنْ تَصُومُوا} أي: أيُّها المطيقون، أو المطوِّقون، وجهدتم طاقتَكم، أو المرخَّصون في الإفطار؛ ليندرج تحته المريض والمسافر / ({خَيْرٌ لَكُمْ})؛ أي: من الفدية أو تطوُّع الخير أو منهما ومن التَّأخير للقضاء، انتهى.
          (فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ): الجارُّ والمجرور بيانٌ لـ((من أطعم))، ويحتمل أنَّه حالٌ من فاعل ((ترك))، واستشكل الكرمانيُّ وغيره دلالةَ الآية على تعيُّن الصوم؛ لتكون ناسخةً لما تقدَّم، واللَّفظ للكرمانيِّ فقال: فإن قلْتَ: كيف وجه نسخها له والخيريَّة لا تقتضي الوجوب؟
          قلتُ: معناه الصَّوم خيرٌ من التَّطوُّع بالفدية، والتَّطوُّع بها سنَّةٌ بدليل أنَّه خيرٌ، والخير من السُّنَّة لا يكون إلَّا واجباً، انتهى.
          واعترضَه الكورانيُّ: بأنَّ دعواه أنَّ الفدية سنَّةٌ غلطٌ؛ لأنَّها واجبةٌ بعد الإفطار، وبأنَّ قوله: الصَّوم خيرٌ من التَّطوُّع بالفدية مخالفٌ لكلام المفسِّرين، فإنَّهم صرفوا الخيريَّة إلى الإفطار، انتهى، واعترضه أيضاً في ((الفتح)) فقال: ولا يخفى بُعده وتكلُّفه، ودعوى الوجوب في خصُوص الصِّيام في هذه الآية أوَّلاً ليست بظاهرةٍ، بل هو واجبٌ مخيَّرٌ، مَن شاء صام ومَن شاءَ أفطر وأطعم، فنصَّتِ الآية على أنَّ الصَّوم أفضل، وكون بعض الواجب المخيَّر أفضل من بعضٍ لا إشكالَ فيه، انتهى.
          واعترضه العينيُّ أيضاً فقال: إن كان المراد من السُّنَّة هي سنَّة النبيِّ صلعم فسنَّته كلُّها خيرٌ، فيلزم أن تكون كلُّ سنَّةٍ واجبةً، وليس كذلك، انتهى.
          وفي اعتراض الأخير تأمُّلٌ، إذ اللَّازم من كلام الكرمانيِّ: هو أنَّ ما كان خيراً مِن السُّنَّة يكون واجباً، لا ما ذكره، فافهم.
          تنبيه: وصل تعليق ابن نميرٍ أبو نعيمٍ في ((المستخرج)) والبيهقيُّ من طريقه، ولفظ الثَّاني قال: ((قدم النبيُّ صلعم المدينة ولا عهد لهم بالصِّيام، وكانوا يصومون ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ حتَّى نزل شهر رمضان، فاستكثروا ذلك وشقَّ عليهم، وكان مَن أطعم مسكيناً كلَّ يوم ترك الصِّيام ممن يطيقه رُخِّصَ لهم في ذلك، ثم نسخه: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فأمرُوا بالصِّيام)).
          وحديث الباب: أخرجَه أبو داود من طريق شعبةَ والمسعوديِّ عن الأعمش مطوَّلاً في الأذان والقيام والصِّيام، واختُلِف في إسناده اختلافاً كثيراً، وطريق ابن نميرٍ هذه أرجحها، قاله في ((الفتح)).
          تنبيه: قال شيخ الإسلام: القول هنا بأن الناسخ لآية الفدية {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} قول مَن روى عنه ابن نمير، والقول بأنَّه {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} قول ابن عمر وسلمةَ، ولا منافاة بينهما لجواز اجتماعهما على النَّسخ، انتهى.