الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب صيام أيام التشريق

          ░68▒ (باب صِيَامِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ): هي الأيَّام التي بعد يوم النَّحر، واختلف فيها فقيل: يومين، والأصحُّ: أنَّها ثلاثة، وعند أبي حنيفةَ ومالك وأحمدَ لا يدخل فيهَا اليوم الثَّالث بعد يومِ النَّحر، وأيَّام التَّشريق: هي المعدوداتُ في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203].
          ويقالُ لها: أيَّام منى وهي الحادي عشر وتالياهُ من ذي الحجَّة، سمِّيتْ بأيَّام التَّشريق؛ لأنَّ لحوم الأضَاحِي تشرقُ؛ أي: تنشرُ فيها في الشَّمس، وقيل: لأنَّ الهدي والأضَاحِي لا تنحرُ حتَّى تشرق الشَّمس، وقيل: لأنَّ صَلاة العيدِ تقعُ عند شروقِ الشَّمس أوَّل يومٍ منها، فصارت هذه الأيَّام تبعاً ليومِ النَّحر، وهذا يؤيِّد قول من يقول: يومُ النَّحر منها.
          وقال أبو حنيفة: التَّشريق التَّكبير دبرَ كلِّ صلاةٍ، وقيل لها: أيَّام منى؛ لأنَّ الحاجَّ فيها في منى، وقال النَّبيُّ صلعم: ((أيَّام منى ثلاثةٌ، فمن تعجَّل في يومينِ فلا إثمَ عليهِ، ومن تأخَّر فلا إثمَ عليهِ)) أخرجه أصحاب السُّنن الأربعة من حديثِ عبد الرَّحمن بن يَعمُر، وهو يدلُّ على أنَّها أيَّام التَّشريق، وأفضلها أوَّلها.
          ويقالُ له: يوم القَرِّ _بفتح القاف وتشديد الراء_؛ لأنَّ الحجَّاج يستقرون فيه في منى، ولا يجوزُ لهم النَّفر فيه، والمراد بالتَّرجمة: بيانُ حكم الصَّوم في هذه الأيَّام من جوازٍ أو عدمه بناء على أنَّها تلتحقُ بيوم النَّحر، فيحرمُ صومها مطلقاً، أو يجوزُ للمتمتِّع خاصَّة، أو له ولمن في معناهُ.
          قال في ((الفتح)): وفي كلِّ ذلك اختلافُ العلماءِ، والرَّاجح عند البخاريِّ جوازها للمتمتِّع، قال: فإنَّه ذكر في البابِ حديثي عائشةَ وابن عمر في جوازِ ذلك، ولم يذكر غيره.
          وروى ابن المنذر وغيره عن الزُّبير بن العوَّام وأبي طلحةَ من الصَّحابة الجوازَ مطلقاً، وعن عليٍّ وابن عمرو بن العاصِي المنعُ مطلقاً، وهو المشهورُ عن الشَّافعيِّ، والمرجَّح عند أصحابهِ أيضاً، وهو المذهبُ الجديد، وجوَّز في القديم صومهَا للمتمتِّع.
          قال النَّوويُّ: هو الرَّاجح دليلاً، وإن كان مرجوحاً عندَ الأصحابِ، والمصحَّح عندهم الجديد وهو التَّحريم. انتهى.
          وجرى على القديم أبو محمَّدٍ الجوينيُّ والبيهقيُّ وصحَّحه ابن الصَّلاح، وقال مالكٌ: يجوز صومها للمتمتِّع والمحصر، والكفَّارة ممَّا فيه الصَّوم متتابعاً، وقال بعضهم: لا يجوزُ صوم اليومين الأوَّلين إلَّا للمتمتِّع، ويجوز صوم الثَّالث له وللنَّذر، وكذا الكفَّارة إن صام قبلهُ صياماً متتابعاً.
          ونقل / العينيُّ في صومهَا تسعةَ أقوالٍ:
          منها: أنَّها يجوز صومها للنَّذر فقط، ولا يجوز للمتمتِّع ولا لغيرهِ، قال: وهذا القولُ في غايةِ الضَّعف، وإن نسبهُ بعضهم لأبي حنيفةَ، قال: لأنَّه كما لم يصحَّ عنه، وقال ابنُ العربي: لا يساوي سماعهُ.
          قال في ((الفتح)): وحجَّة من منعَ حديث نبيشةَ الهذلي عند مسلمٍ مرفوعاً: ((أيَّام التَّشريق أيَّام أكلٍ وشربٍ))، وحديث عمرو بن العاصي أنَّه قال لابنه عبد الله في أيَّام التَّشريق: ((إنَّها الأيَّام التي نهَى رسول الله صلعم عن صومهنَّ، وأمر بفطرهنَّ)).
          أخرجه أبو داود وابن المنذر، وصحَّحه ابن خزيمةَ والحاكم.