الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب وجوب صوم رمضان

          ░1▒ (باب وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَانَ): قال في ((الفتح)): كذا للأكثر، وللنَّسفي: <باب وجوبِ رمضانَ وفضلِهِ>، وذكر أبو الخير الطَّالقاني في كتابه: ((حظائر القدس لرمضان)) ستَّين اسماً، انتهى.
          وأقول: لم أقفْ على ما ذكره الطالقانيُّ، ولكن وقفتُ على ما ذكره الدَّميري منها في ((رموز الكنوز)): وهي خمسةٌ وخمسون اسماً منظومةً، فنذكرُ بعضها منثوراً للاختصار فنقول منها:
          رمضانُ سيِّد الشهور، خير الشهور، أبو البركات، شهر الله، شهر الأُمَّة، الذكر، التَّحميد، الرَّحمة، النصر، الفصل، القُربان، الصبر، الضِّياء، الفرقان، الخير للمسلم، الشَّر للمنافق، الطاعة، العِتق، شدُّ المئزر، تزيين الجنَّات، التضعيف، الضِّياء، الجزاء، ذو الفرحتَين، القرآن، الدُّعاء، النَّجاة، الاعتصام، النُّور، تطهير الأرواح، شهر الأُنس، إلى غير ذلك مما ذكرناه في ((تحفة أهل الإيمان)).
          وقال في ((الفتح)): وذكر بعض الصُّوفيَّة: أنَّ آدم عليه الصلاة والسلام لمَّا أكل من الشجرة ثمَّ تاب؛ تأخَّر قَبول توبته لِما في جسده من تلك الأكلة ثلاثين يوماً، فلمَّا صفا جسده منها، تِيب عليه، ففرض على ذرِّيَّته صيام ثلاثين يوماً، قال: وهذا يحتاج إلى ثبوت السَّند فيه إلى مَن يُقبَل قولُه في ذلك، وهيهات وجدان ذلك، انتهى.
          وقال العينيُّ: فإن قلتَ: ما الحكمة في التَّنصيصِ على الثَّلاثين التي هي الشَّهر الكامل؟ قلتُ: قالوا: لمَّا أكل آدم عليه السلام من الشَّجرة التي نُهي عنها بقي شيءٌ من ذلك في جوفه ثلاثين يوماً، فلمَّا تاب الله عليه أمره بصيامِ ثلاثين يوماً بلياليهنَّ، ذكره في ((خلاصة البيان في تلخيص معاني القرآن))، انتهى.
          وفي إطلاق المصنِّفِ رمضان من غير إضافة شهرٍ إليه، إشارةٌ إلى عدم كراهة ذلك خلافاً لِمَن قال بها، لكنَّها تنزيهية، واستند في ذلك لنحو ما رواه أبو أحمد بن عديٍّ الجرجاني من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: ((لا تقولوا رمضان، فإنَّ رمضان اسمٌ من أسماء الله تعالى)).
          وتُعقِّب: بأن الحديث ضعيفٌ؛ لأنَّ فيه أبا معشرٍ ضعيفٌ، وعلى فرْض صحَّة أنَّه من أسماء الله تعالى فهو غير مشتقٍّ أو راجعٌ إلى معنى الغافر، فافهم.
          وقال في ((المصباح)): قال بعض العلماء: يُكره أن يقال: جاء رمضان وشبهه إذا أُريد الشَّهر، ولا قرينة معه، وإنَّما يقال: جاء شهر رمضان.
          واستدلَّ بحديث: ((لا تقولوا رمضان، فإن رمضان اسمٌ من أسماء الله تعالى، ولكن قولوا: شهر رمضان)) قال: وهذا الحديث ضعَّفه البيهقيُّ، وضعْفُه ظاهرٌ؛ لأنه لم يُنقَل عن أحدٍ من العلماء أن رمضان اسمٌ من أسماء الله تعالى، فلا يُعمَل به.
          والظَّاهر: جوازه من غير كراهةٍ كما ذهب إليه البخاريُّ وجماعةٌ من المحقِّقين، وثبت في الأحاديث الصَّحيحة ما يدلُّ على الجواز مطلقاً كقوله عليه السلام: ((إذا جاء رمضان فُتِحت أبواب الجنَّة، وغلِّقت أبواب النَّار، وصُفِّدت الشَّياطين))، انتهى.
          وإضافة صومٍ إلى رمضان من إضافة المصدر إلى محلِّه، فهي بمعنى في على حد مكر الليل، ويصحُّ أن تكون بمعنى اللام؛ لأدنى ملابسةٍ.
          قال القسطلانيُّ تبعاً للبيضاوي و((الكشَّاف)): ورمضان مصدر رمَضَ: احترقَ، لا ينصرف للعلميَّة والألف والنُّون، وإنما سمَّوه بذلك؛ إمَّا لارتماضهم فيه من حرِّ الجوع والعطش، أو لارتماض الذُّنوب / فيه، أو لوقوعه أيام رمض الحرِّ حيث نقلوا أسماء الشُّهور عن اللُّغة القديمة وسمَّوها بالأزمنةِ التي وقعت فيها، فوافقَ هذا الشَّهر أيَّام رمضِ الحرِّ، أو من ترمَّض الصَّائم: اشتدَّ حرُّ جوعه، أو لأنه يحرق الذُّنوب، انتهى.
          ويُجمَع على رمضانات وأرمضاء ورماضين ورمضانون وأرمضةٌ وأرمضٌ، لكنَّ الأخير شاذٌّ كما في ((القاموس))، وزاد الدَّميري: رِماض _بكسر الراء_، وقال: إنَّ رماضين معترضةٌ.
          تنبيه: كان فرض صيام شهر رمضان في السَّنة الثانية من الهجرة في شعبانَ، فصام رسول الله تسعَ رمضاناتٍ، ولم يكمل له شهر إلَّا في سنةٍ واحدةٍ، وقيل: في اثنتين.
          واختلف السَّلف كما في ((الفتح)): هل فُرِض على الناس أوَّل الإسلام صيامٌ قبل رمضان أو لا؟
          فالجمهور وهو المشهور عند الشافعيَّة: أنه لم يجب قطٌّ صومٌ قبل صوم رمضان، وفي وجهٍ لهم وهو قول الحنفيَّة: أوَّل ما فُرض صيامُ عاشوراء، فلمَّا فُرِض رمضان نُسِخ وجوب عاشوراء، ومن أدلَّة الشافعيَّة: حديث معاوية مرفوعاً: ((لم يكتبِ اللهُ عليكُم صيامَهُ)).
          ومن أدلَّة الحنفيَّة ظاهر حديثَي ابن عُمر وعائشة الآتيين في هذا الباب، وحديث الرَّبيع بنت معوِّذ عند مسلمٍ: ((مَن أصبحَ صائماً فليُتمِّ صومَه، ومَن لم يكن أكل فليصمْ)) الحديث.
          وبنوا على هذا الخلاف: أنَّه هل يشترط في صحَّة الصوم الواجب نيَّةٌ من الليل أو لا؟! وسيأتي الكلام في ذلك بعد عشرين باباً.
          وقيل: أوَّل ما فُرض قبل رمضان صيام ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهرٍ؛ لِما رواه البيهقي: ((أنه صلعم لمَّا قدم المدينة جعل يصوم من كلِّ شهرٍ ثلاثة أيَّامٍ)).
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): بالجرِّ عطفاً على ((وجوب))، ويجوز رفعه عطفاً على ((باب))، أو على أنه مبتدأٌ وخبره محذوفٌ؛ أي: ممَّا يدلُّ على وجوب صوم رمضان ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} الآية): وهي في سورة البقرة؛ أي: فرضه الله عليكم في كلِّ عامٍ مرَّةً في شهر رمضان.
          قال في ((الفتح)): أشار بذلك إلى مبدأ فرض الصِّيام، قال: وكأنَّه لم يثبتْ عنده على شرطه فيه شيءٌ، فأورد ما يُشير إلى المراد، فإنه ذكر فيه ثلاثة أحاديث.
          ({كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}): يعني فُرض على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من لدنْ آدم عليه الصلاة والسلام، وعلى أُممِهم، وبكونه من لدن آدم صرَّح الزَّمخشري وغيره ونقل: أنَّ علياً ☺ قال: أوَّلهم آدمُ، وروى ابنُ أبي حاتمٍ بسندٍ فيه مجهولٌ عن ابن عمر رفعه: ((صيام رمضانَ كتبه اللهُ على الأممِ قبلَكم))، وفيه كما قال البيضاويُّ وغيره: توكيدٌ للحكم، وترغيبٌ للفعل، وتطييبٌ للنفس، واختلفوا في التشبيه على وجهين:
          أحدهما: وهو قول الجمهور: أنه عائدٌ إلى أصل إيجاب الصَّوم، لا إلى مقدارِه ووقته ووصفه، بل فُرض عليهم صومُ عاشوراء أو غيره، يعني: أنه عبادةٌ قديمةٌ ما أخلى الله أحداً من افتراضها عليهم لم يفترضْها عليكم وحدكم.
          ثانيهما: أنَّ التشبيه عائدٌ إلى وقت إيجاب الصوم ومقداره، لكن غير هذه الأمة غيَّروا وبدَّلوا، كما قال البغويُّ، قال جماعةٌ من العلماء: أراد تعالى: أن صيام رمضان كان واجباً على النَّصارى كما فُرض علينا، فلمَّا وقعَ في الحرِّ الشديد والبرد الشديد، وشقَّ عليهم في أسفارهم، وضرَّهم في معاشهم، فاجتمع علماؤهم ورؤساؤهم على أن يجعلوا صيامَهم في الرَّبيع، وزادوا فيه عشرةَ أيَّامٍ كفَّارةً لِما صنعوا، فصار أربعين يوماً، ثم إنَّ ملِكاً لهم اشتكى فيه، فجعل لله عليه إن هو برئ مِن وجعه أن يزيد في صومِه أسبوعاً فزاده فيه، ثمَّ مات ذلك الملك، ووليهم ملكٌ آخر فقال لهم: أتمُّوه خمسين يوماً.
          وهذا مجملٌ، ثم بيَّنه بعض بيانٍ بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} ثم أوضح ذلك أتمَّ إيضاحٍ بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ}.
          وقوله: ({لَعَلَّكُمْ}): أي: أيُّها المؤمنون متعلِّقٌ بـ{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} ({تَتَّقُونَ}): أي: تتجنَّبون المعاصي، فإنَّ الصوم يكسر الشَّهوة كما قال عليه السلام في الحديث الصَّحيح: ((ومَن لم يستطعْ فعلَيهِ بالصَّوم، فإنَّه له وجاءٌ)).
          وفي الصَّوم فوائدُ:
          منها: كسر النفس، وقهر الشَّيطان، فالشبع بمنزلة النَّهر للنفس يرِدُه الشيطانُ، والجوع نهرٌ للروح ترِدُه الملائكةُ.
          ومنها: أن الغنيَّ يعرف قدْرَ نعمةَ الله تعالى عليه بقدرته على ما مُنع منه كثيرٌ من الفقراء من فضول الطَّعام والشراب والنِّكاح، فيشكرُ مولاه على نعمتِه عليه بالغِنى، ويدعوه ذلك إلى رحمةِ الفقير والإحسانِ إليه، وهذا مجملٌ بيَّنه تعالى بعضَ بيانٍ أشار إليه بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
          واعلم: أنه ذكر بعضهم أنَّ الصوم ربعُ الإيمان؛ لقوله عليه السلام فيما رواه التِّرمذيُّ عن أبي هريرة: / ((الصومُ نصفُ الصَّبرِ)) مع قوله عليه السلام: ((الصَّبرُ نصفُ الإيمانِ)). رواهُ الخطيب وأبو نُعيمٍ في ((الحلية)) عن ابن مسعودٍ.
          تنبيه: ينبَني على الخلاف السابق في معنى التَّشبيه في قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] خلافٌ في أنَّ صيام رمضان من خصائصِ هذه الأُمَّة أم لا؟ والأوَّل قول الجمهور فافهم.