الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا جامع في رمضان

          ░29▒ (بَابٌ): بالتَّنوين (إِذَا جَامَعَ): أي: الصَّائم (فِي رَمَضَانَ): أي: في نهارهِ عامداً من غير عذرٍ، وجوابُ ((إذا)) محذوفٌ؛ أي: وجبتْ عليه الكفَّارةُ، وقيل: يقدَّر، فالقضَاء عليه مختلَفٌ فيه لِما سيأتي في الآثار إذ ليس فيها تعرُّضٌ للكفَّارة، والأولى أن يقدَّرَ الجواب: وجبَ عليه القضاءُ والكفَّارة، وقدَّره شيخ الإسلام بقولِهِ: بطلَ صومُه ولزمَه الكفَّارة، انتهى، والكلُّ صحيحٌ.
          (وَيُذْكَرُ): بالبناء للمفعول (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ): أي: رفعَ أبو هريرة الحديثَ المذكور بقوله: (مَنْ أَفْطَرَ يَوْماً مِنْ رَمَضَانَ...) إلخ.
          قال الكرمانيُّ: فإن قلْتَ: ما مرجعُ الضَّمير؟ قلْتُ: الحديث الَّذي بعده وهو: ((من أفطرَ))...إلخ، وهو جملةٌ حاليَّةٌ متأخِّرةٌ رتبةً عن مفعول ما لم يُسمَّ فاعلُه، قال: وفي بعضِها: <رفعُهُ> بلفظِ الاسم، مرفوعاً بأنَّه مفعول ((يُذكَر))، وحينئذٍ يكونُ الحديث بدلاً من الضَّمير، كقوله: ما متَّعت به سمعي وبصري إلَّا بدعاء رسول الله، فإنَّ السَّمع بدلٌ عن الضَّمير، جوَّزَ النُّحاة مثله، والمقصُود منه أنَّه ليس الحديثُ موقوفاً على أبي هريرةَ، بل هو مرفوعٌ إلى رسول الله صلعم، انتهى.
          تنبيه: ذكر المصنِّف الحديث معلَّقاً بصيغة التَّمريض؛ لأنَّه ليس على شرطهِ وإن وصله أصحاب ((السُّنن)) الأربعة وصحَّحه ابن خُزيمة عن أبي هريرة؛ لأنَّ في سنده ابن المطوَّس عن أبيه، وقد قال البخاريُّ فيه في كتابه ((التَّاريخ)): تفرَّد أبو المطوَّس بهذا الحديث، ولا أدري سمعَ أبوه مِن أبي هريرةَ أم لا، وأبو المطَوَّس _بميم مضمومةٍ فطاءٌ مهملةٌ خفيفةٌ فواو مشددةٌ مفتوحتين فسينٌ مهملةٌ_ واسمه: يزيدُ بن المطوَّس أيضاً.
          قال في ((الفتح)) بعد كلامٍ فيه: فحصلَتْ فيه ثلاثُ عللٍ: الاضطرابُ، والجهلُ بحال أبي المطوَّس، والشَّكُّ في سماع أبيه من أبي هريرةَ، وهذه الثَّالثة تختصُّ بالبخاريِّ؛ لاشتراطِهِ اللقاء، انتهى.
          (مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ): ولأبي ذرٍّ: <من غير علَّةٍ> (وَلَا مَرَضٍ لَمْ يَقْضِهِ): أي: لم يكفِهِ (صِيَامُ الدَّهْرِ، وَإِنْ صَامَهُ): أي: الدَّهر كلَّه، بدلاً عن اليوم الذي أفطره، فـ((صيام)) فاعلُ ((لم يقضِه)).
          قال ابن بطَّالٍ: هذا حديثٌ ضعيفٌ لا يُحتَجُّ به، قال: وقد صحَّتِ الكفَّارة بأسانيدَ صحاحٍ لا تُعارض بمثل هذا الحديث، انتهى.
          وبفرضِ صحَّته فظاهرهُ مشكِلٌ، وقد تأوَّلوه على وجوهٍ، وفي رواية شعبةَ لأصحاب ((السُّنن)): ((في غير رخصةٍ رخَّصَها اللهُ تعالى لم يقضِ عنهُ وإن صامَ الدَّهر كلَّهُ)).
          فقال المظهريُّ: معنى ((لم يقضِهِ)) يعني: لم يجد فضيلةَ الصَّوم المفروض بصوم النَّافلة، قال: وليسَ معناه: أنَّ صيام الدَّهر بنيَّة قضاء رمضان لا يسقطُ عنه قضاءُ ذلك اليوم، بل يُجزِئه قضاء يومٍ بدلاً عن يومٍ، وقال شارحُ ((المشكاة)): هو من بابِ التَّشديد والمبالغة، ولذلك أكَّده بقوله: ((وإنْ صامَهُ))؛ أي: حقَّ الصِّيامِ وأكملَه، وأسند القضاء / إلى الصَّوم إسناداً مجازيًّا، وأضاف الصَّوم إلى الدَّهر إجراءً للظَّرف مجرى المفعول به؛ إذِ الأصل لم يقضِ هو في الدهر كلِّه لو صامَه.
          وقال ابن المنيِّرِ: قوله: ((لم يقضِهِ صيامُ الدَّهرِ))؛ أي: لو صام عوضَ اليومِ دهراً لم يكفه في وصفهِ الخاصِّ به، وهو الكمالُ، وإن كان يقضِي عنه في وصفه العامِّ من الإجزاءِ عنه، قال: ولا يُحمَل على نفي القضاء بالكلِّيَّة؛ إذ لا يُعهَد عبادةٌ واجبةٌ مؤقَّتةٌ لا تقبل القضاء إلَّا الجمعة؛ لأنَّها لا تجتمعُ بشروطِها إلَّا في يومها وقد فات، أو في مثله وقد اشتغلت الذِّمَّة بالحاضرة، فلا تسع الماضية، انتهى.
          قال في ((الفتح)): ولا يخفى تكلُّفه، وسياق أثر ابن مسعود الآتي يردُّ هذا التَّأويل، وقد سوَّى بينهما البخاريُّ، انتهى.
          وذكر ابن حزمٍ من طريق العلاء بن عبد الرَّحمن عن أبيه عن أبي هريرةَ مثله موقوفاً لكن الرَّفع أرجحُ، فيُقدَّم الرَّفع على الوقف.
          (وَبِهِ): أي: بما دلَّ عليه حديث أبي هريرة (قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ): موقوفٌ عليه، وأثرُ ابن مسعودٍ هذا وصله البيهقيُّ من طريق المغيرة بن عبد الله اليشكريِّ، قال: حُدِّثت أنَّ عبد الله بن مسعودٍ قال: ((مَن أفطرَ يوماً من رمضانَ من غير علَّةٍ لم يجزه صيامُ الدَّهرِ حتَّى يلقى اللهَ تعالى، فإن شاءَ غفرَ لهُ وإن شاءَ عذَّبه))، ووصله عبدُ الرَّزَّاق من وجهٍ آخرَ، وكذا وصله الطبرانيُّ والبيهقيُّ من وجهٍ آخرَ عن عرفجة قال: قال عبدُ الله بن مسعودٍ: ((مَن أفطر يوماً في رمضانَ متعمِّداً من غير علَّةٍ، ثم قضى طولَ الدَّهر لم يُقبَل منه)).
          قال في ((الفتح)): وبهذا الإسناد عن عليٍّ مثله، قال: وذكر ابنُ حزمٍ من طريق ابن المبارك بإسنادٍ له فيه انقطاعٌ أنَّ أبا بكرٍ الصِّديق قال لعمرَ بنِ الخطَّاب فيما أوصاه به: مَن صام شهر رمضان في غيره لم يُقبَل منه، ولو صامَ الدَّهر أجمع.
          (وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ): بفتح الشِّين المعجمة، عامر بن شراحيل (وَابْنُ جُبَيْرٍ): مصغَّراً، وهو سعيدٌ (وَإِبْرَاهِيمُ): أي: النَّخعي (وَقَتَادَةُ): بفتح القاف؛ أي: ابن دعامةَ (وَحَمَّادٌ): بفتح المهملة وتشديد الميم؛ أي: ابن أبي سليمان (يَقْضِي): بكسر الضَّاد المعجمة؛ أي: المجامع في نهارِ رمضان أداءً (يَوْماً مَكَانَهُ): أي: مكان اليوم الذي أفطرَهُ، وفي تنكير ((يوماً)) إشارةٌ إلى عدم الفوريَّة.
          قال في ((الفتح)): أمَّا أثر ابن المسيَّبِ فوصلَه مسدَّدٌ وغيره في قصَّة المجامعِ، قال: ((يقضي يوماً مكانه ويستغفر الله))، قال: ولم أرَ عنه التَّصريحَ بذلك في الفطر بالأكلِ، بل روى ابنُ أبي شيبةَ من طريق عاصمٍ قال: كتبَ أبو قلابة إلى سعيدِ بنِ المسيَّب: يسأله عن رجلٍ أفطر يوماً من رمضان متعمِّداً قال: يصومُ شهراً، قلتُ: فيومين؟ قال: صيام شهرٍ، قال: فعددت أيَّاماً، قال: صيام شهرٍ؛ أي: عن كلِّ يومٍ، وروى البزَّار والدارقطنيُّ مقتضى هذا الاحتمال مرفوعاً عن أنسٍ بسندٍ ضعيفٍ، انتهى.
          وما نقله المصنِّف عن ابن المسيَّب أصحُّ وأظهرُ، وأمَّا أثر الشعبيِّ فوصله سعيد بن منصورٍ عنه بلفظ: ((يصومُ يوماً مكانَهُ، ويستغفرُ اللهَ ╡))، وأمَّا أثر سعيد بن جبيرٍ فوصله ابنُ أبي شيبةَ عنه بمثل ما في ((الصَّحيح))، وكذا أثر النَّخعيِّ وصله ابن أبي شيبة عنه بمثله، وأمَّا أثر قتادةَ فوصله عبدُ الرزَّاق عن معمرٍ عن الحسن وقتادةَ في قصَّة المجامع، وأمَّا أثر حمَّاد بن أبي سليمان _أحد الأئمَّة الذين أخذ عنهُم أبو حنيفةَ النُّعمان ☺_ فوصلَه عبد الرزَّاق عن أبي حنيفةَ عن حمَّادٍ.
          تنبيه: رُوي في هذا الباب أحاديثُ عن غير أبي هريرةَ _كما في العيني_ أخرج ابن عدي بسندٍ فيه مقالٌ عن ابنِ عمر قال رسولُ الله صلعم: ((مَن أفطرَ يوماً مِن رمضَان في غيرِ سبيلٍ خرَجَ من الحسناتِ كيوم ولدتْه أمُّه)).
          وأخرج الدَّارقطنيُّ بسندٍ فيه مقَالٌ عن أنس بنِ مالكٍ قال رسولُ الله صلعم: ((مَن أفطرَ يوماً مِنْ شهرِ رمضان مِن غير رخصَةٍ ولا عذرٍ كان عليه أن يصُومَ ثلاثين يوماً، ومَن أفطرَ يومَين كانَ عليه ستِّينَ، ومَن أفطرَ ثلاثةَ أيَّامٍ كانَ عليهِ تسعينَ يوماً))، وأخرج الدَّارقطنيُّ بسندٍ فيه ضعيفان عن جابر بن عبد الله أنَّ النَّبيَّ قال: ((مَن أفطرَ يوماً من شهرِ رمضانَ في الحضَرِ فليُهدِ بدنةً، فإن لم يجدْ فليطعِمْ ثلاثينَ صاعاً))، فهذه الأحاديث لا يحتجُّ بها لِما فيها مما ذكرناه، والمعوَّلُ عليه أنَّه يقضي مكان ما أفطره من يومٍ أو أكثر، وعليه أيضاً الكفَّارة اتِّفاقاً في الجماع، وفي غيره خلافٌ، وفي القضاءِ والكفَّارة خلافٌ أيضاً لغير الجمهور كما تقدَّم، وسيأتي مبسوطاً إن شاء اللهُ تعالى في حديث أبي هريرة.
          قال ابن بطَّالٍ: أشار به المصنِّف إلى إيجاب الكفَّارة على مَن أفطر بأكلٍ أو شربٍ قياساً على الجِماع، والجامعُ بينهما انتهاك حرمةِ الشَّهر بما يُفسِد الصَّوم عمداً / .
          قال في ((الفتح)): وقرَّر ذلك الزَّين ابن المنيِّرِ بأنَّه ترجم بالجماع؛ لأنَّه الذي ورد فيه الحديث المسند، وإنَّما ذكر آثار الإفطار؛ ليُفهمَ أنَّ الإفطار بالأكل والجِماع بمعنًى واحدٍ، انتهى.
          وقال الكرمانيُّ: قال ابن بطَّالٍ: اختلفوا فيما يجبُ على الواطئ عامداً في نهار رمضانَ، قال: فذكرَ البخاريُّ عن جماعةٍ من التَّابعين أنَّ على مَن أفطر القضاءَ فقط بغير كفَّارةٍ، انتهى، فتأمَّل.
          قال في ((الفتح)): والَّذي يظهر لي أنَّ البخاريَّ أشار بالآثار الَّتي ذكرها إلى أنَّ إيجاب القضاء مختلَفٌ فيه بين السَّلف، وأنَّ الفطرَ بالجِماع لا بدَّ فيه من الكفَّارة، وأشارَ بحديث أبي هريرة إلى أنَّه لا يصحُّ؛ لكونه لم يجزمْ به عنه، وعلى تقدير صحَّتِه، فظاهرُه يقوِّي قولَ مَن ذهب إلى عدم القضاء في الفطرِ بالأكل، بل يبقى ذلك في ذمَّتِه زيادةً في عقوبته؛ لأنَّ مشروعيَّة القضاء تقتضي دفعَ الملام، لكن لا يلزمُ مِن عدم القضاء عدمُ الكفَّارة فيما ورد فيه الأمر بها، وهو الجِماع، والفرقُ بين الانتهاك بالجِماع والأكلِ ظاهرٌ، فلا يصحُّ القياس المذكور، انتهى، فتأمَّلْه.
          ومثل الأكل والجماع غيرُهُما مِن المفطرات، ففيها خلافٌ، فعند المالكيَّة والحنفيَّة تجب الكفَّارة في جميع ذلك مع القضاء، وعند الشافعيَّة والحنابلة: لا كفَّارةَ إلَّا في الجِماع، وعبارة ابن بطَّالٍ: واختلفوا فيمَن أكل عامداً في رمضان، فقال مالكٌ وأبو حنيفةَ والثوريُّ والأوزاعيُّ وأبو ثورٍ وإسحاق: عليه ما على المجامِعِ من الكفَّارة مع القضاء، وهو قول عطاءٍ والحسن والزُّهري، وقال الشَّافعيُّ وأحمدُ: عليه القضاء دون الكفَّارة، وهو قول النَّخعيِّ وابن سيرينَ، وقالوا: إنَّ الكفَّارة إنَّما وردت في المجامِعِ خاصَّةً، وليس الأكل مثله بدليل قوله عليه الصلاة والسَّلام: ((مَن استقاءَ فعليهِ القضاءُ)) وهو مفطرٌ عمداً، وكذلك مزدردُ الحصا عمداً عليه القضاءُ، قال: وحجَّة مَن أوجب الكفَّارة أنَّ الأكل والشُّرب في القياس كالجمَاع سواءٌ، وأنَّ الصَّومَ في الشَّريعة: الامتناعُ من الأكل والشُّرب والجمَاع، فإذا ثبتَ في الشَّريعة في وجهٍ واحدٍ منهما حكم، فسبيلُ نظيرِه في ذلك الحكمِ سبيلُه؛ لأنَّ المعنى الجامعَ بينهما انتهاكُ حرمَةِ الشَّهر فيما يُفسِدُ الصَّوم عمداً، وأوجبَ عليه السَّلام على الواطِئ في رمضان الكفَّارةَ، فوجبَ أن يكون حكمُ الأكلِ في الكفَّارة مثله، إذ هما في التَّحريم سواءٌ. انتهت، فاعرفْه.