الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول النبي: إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء

          ░28▒ (بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: إِذَا تَوَضَّأَ): أي: أحدُكم كما يأتي في روايةِ مسلمٍ (فَلْيَسْتَنْشِقْ): بلام الأمرِ مكسورةٌ، وتسكَّنُ تخفيفاً (بِمَنْخِرِهِ): قال الكرمانيُّ وتبعوه: المَنْخِر _بفتح الميم وكسر الخاء المعجمة_: ثقبُ الأنف، وقد تُكسر الميم إتباعاً للخاء، وقالَ في ((المصباح)): المَنْخِرُ مثال مسجدٍ: خرق الأنف، وأصلُه: موضعُ النَّخير، وهو صوتُ خن الأنف أو الخياشيم، يُقال: نَخَرَ يَنْخُرُ، مِن باب قَتَلَ: إذا مدَّ النَّفَس في الخياشيم، وكسر الميم للإتباع لغةٌ، ومثله مُنتِن، قالوا: ولا ثالثَ لهما، والمنْخُور مثال عُصفُورٍ لغة طيِّءٍ، والجمعُ: مناخرُ ومناخيرُ، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): نَخَرَ يَنْخِرُ ويَنْخُرُ نَخِيراً: مدَّ الصَّوتَ في خياشيمه، والمَنْخَرُ _بفتح الميم والخاء وبكسرهما وبضمِّهما_ وكمَجْلِس ومُلْمُول: الأنف، ونخرةُ الأنف مقدِّمتُه أو خرقُهُ، وما بين المنخرين أو أرنبتُه، انتهى.
          ولعلَّ اقتصار الشُّرَّاح على لغتَين؛ لأنَّها الرواية، أو لأنها أشهر لغاته، وهذه القطعةُ مِن الحديث بهذا اللَّفظ لم يوصلْها البخاريُّ، ووصله مسلمٌ من طريق همَّام بن منبِّه قال: ((حدَّثنا أبو هريرةُ عن محمَّدٍ رسول الله)) فذكر أحاديثَ منها:
          وقال رسولُ الله صلعم: ((إذا توضَّأ أحدُكُم فليستنشقْ بمنخرَيهِ من الماءِ ثمَّ لينتثرْ))، وفي لفظٍ له من رواية الأعرج عن أبي هريرة يبلغ به النَّبي صلعم قال: ((إذا استجمرَ أحدُكم فليستجمرْ وتراً، وإذا توضَّأ أحدُكم فليجعلْ في أنفِه ماءً ثمَّ لينتثرْ)).
          ورواه عبد الرزَّاق في ((مصنَّفه)) والطَّبرانيُّ عن همَّام في نسختِه بلفظ: ((إذا توضَّأ أحدُكم فليستنشقْ بمنخرِه من الماءِ ثمَّ ليستنثرْ))، ومعنى: ((فليستنشقْ)) أي: فليفعلِ الاستنشاقَ، وهو إدخالُ الماء إلى الأنف، بخلاف الاستنثارِ، فإنَّه إخراجُ الماء من الأنفِ، و((منخره)) بالإفراد، الإضافة فيه للجنس، فيصدق ((بمنخريه))، كما في رواية مسلمٍ السَّابقة آنفاً.
          (وَلَمْ يُمَيِّزْ): بتشديد التحتيَّة المكسورة بعد الميم المفتوحة؛ أي: لم يفصل في الحكم (بَيْنَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ): أي: في الحديثِ المذكور، بل ذكرَه عليه السَّلام على سبيلِ العمومِ، فشمل الاثنَين، إذ لو كان بينهما فرقٌ في هذا الحكم لبيَّنه عليه الصَّلاة والسلامُ، وهذا من كلام المصنِّف، قاله تفقُّهاً، ولو عبَّر بنحو: ولم يفصل بين الصَّائم وغيره، أو بنحو: ولم يجعل، أو لم يذكر بينهما فرقاً لكان أولى، فافهمْ.
          فيُسَنُّ الاستنشاقُ في الوضوء ولو للصَّائم، ولا يضرُّه لو سبقَه شيءٌ منه، إلَّا إذا بالغَ فيه، ومثله المضمضة، ومراد المصنِّف: أنَّه لم يذكر النَّبيُّ بين الصَّائم وغيره فرقاً؛ أي: في أصلِ الاستنشاق، فلا ينافي أنَّه ميَّزَ بين الصَّائم وغيره في المبالغة فيه، فقد روى أصحابُ ((السُّنن)) وصحَّحه ابنُ خزيمة وغيره عن لقيط بن صبرةَ: أنَّ النَّبي صلعم قال له: ((بالِغ في الاستنشاقِ / إلَّا أن تكونَ صائماً))، قال في ((الفتح)): وكأنَّ المصنِّفَ أشارَ بإيراد أثرِ الحسن عقبه إلى هذا التَّفصيل، انتهى.
          أي: بقوله: (وَقَالَ الْحَسَنُ): أي: البصريُّ، ممَّا وصله ابنُ أبي شيبةَ بنحوه (لاَ بَأْسَ بِالسَّعُوطِ): وفي قوله: ((لا بأسَ)) إشارةٌ إلى أنَّ الأَولى تركُ السَّعوط، وهو بفتح السِّين وقد تُضم: ما يُصَبُّ في الأنف من الدَّواء (لِلصَّائِمِ إِنْ لَمْ يَصِلْ): أي: السَّعوط (إِلَى حَلْقِهِ): وإن وصلَ إليه أبطلَ الصَّوم ففيه بأسٌ حينئذٍ، قال في ((الفتح)): وقال الكوفيُّون والأوزاعيُّ وإسحاقُ: يجبُ القضاء على من استعطَ، وقال مالكٌ والشَّافعي: لا يجب القضاء إلَّا إن وصل الماء إلى حلقِهِ، انتهى.
          وأقولُ: ما نقلَه عن الشافعيِّ هو أحد قولَين أصحُّهما: يجبُ القضاء وإن لم يصلْ إلى حلقِهِ؛ لأنَّه يفطر بالاستعاط إذا وصل إلى خياشيمِه، وكذا يفطرُ بالتَّقطير في باطنِ الأذن والإحليلِ على الأصحِّ، بناءً على أنَّه لا يُشترطُ في الجوفِ أن يكونَ محيلاً على المعتمد، والَّذي رأيتُه في كتبِ المالكيَّة: أنَّه يفطرُ بذلك وإن لم يصلْ إلى الحلقِ، وعندَ الحنابلةِ: يجبُ في هذه الصُّور ونحوها القضاء والكفَّارة، وتفصيلُ الأحكامِ في ذلك مذكورٌ في كتب الفروعِ، والحاصلُ: أنَّ المدار عند الجميعِ على الوصُول إلى ما يسمَّى جوفاً وإن لم يكن محيلاً، نعم: ظاهرُ كلام الحسن المذكور: أنَّه لا يجبُ القضاء في الاستعاطِ، إلَّا إذا وصل إلى الحلق.
          (وَيَكْتَحِلُ): أي: الصَّائم، عطفٌ على: ((لا بأس))...إلخ، فهو من كلام الحسن، وظاهره: أنَّه يجوز للصَّائم الاكتحال عنده، ولا يفطر به وإن وجد لون الكحل أو طعمه في حلقهِ، وهذا مذهب الشَّافعيَّة والحنفيَّة خلافاً للمالكيَّة والحنابلة حيثُ قالا: بالفطر به حينئذٍ.
          (وَقَالَ عَطَاءٌ): أي: ابن أبي رباحٍ، ممَّا وصله عبد الرزَّاق وسعيد بن منصُورٍ عنه (إِنْ تَمَضْمَضَ): أي: الصَّائم (ثُمَّ أَفْرَغَ): بالغين المعجمة؛ أي: صبَّ (مَا فِيهِ): أي: الَّذي في فمه (مِنَ الْمَاءِ): بيانٌ لـ((ما)) (لَا يَضِيرُهُ): بكسر الضَّاد المعجمة بعدها مثناةٌ تحتيةٌ ساكنةٌ، مضارع ضارَهُ بتخفيفِ الرَّاء؛ بمعنى: ضره للمستملي، كما في ((الفتح))، ولابن عساكر: <لم يضرَّه> بـ((لم)) الجازمة بدل ((لا))، فحذفت الياء؛ لالتقائِها ساكنةً بالرَّاء السَّاكنة للجزم، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ وكذا لابنِ عساكرَ في نسخةٍ: <لا يضرُّه> بضمِّ الضاد وتشديد الرَّاء، وبـ((لا)) النَّافية.
          (إِنْ لَمْ يَزْدَرِدْ): أي: يبلع (رِيقَهُ): فالمفعول محذوفٌ، يدلُّ عليه المقام، ولأبي الوقتِ: <لا يضيرُه أن يزدردَ ريقَه> بذكره، لكن مع إسقاطِ ((لم)) وفتح همزة ((أن))؛ أي: لا يضره أن يبتلعَ ريقه؛ لعدمِ بقاء شيءٍ من ماء المضمضةِ في فمهِ.
          ولذا قال: (وَمَاذَا بَقِيَ فِي فِيهِ؟!): أي: وأيُّ شيءٍ بقي في فمِه بعد إفراغِه الماء ليفطرَ ببلعِه، وأمَّا أثرُه فلا يضرُّ ابتلاعُهُ، قال ابن حجرٍ المكِّي في ((إتحاف أهل الإسلام)): ولا يفطر أيضاً بابتلاع ريقِه مع أثر ماءِ المضمضة وإن أمكنه مجُّهُ؛ لعسر التَّحرُّزِ عنه، قال المتولِّي: ولا يلزمه إذا تمضمض أن ينشفَ فمَه قطعاً، انتهى.
          ومنه يُؤخَذُ: أنَّه لا يلزمه أيضاً أن ينشفه أو أنفه أو فرجه إذا غسل ذلك؛ لعسرِ التحرُّزِ عنه، فاعرفْهُ.
          ولأبي ذرٍّ وابن عساكر كما في فرع ((اليونينيَّة)): <وما بقي> بإسقاط ذا، وهذا يوافقُ قوله في ((فتح الباري)): ووقع في أصلِ البخاريِّ: <وما بقي في فيه>، قال ابن بطَّالٍ: وظاهره: إباحةُ الازدرادِ لِما بقي في الفم من ماء المضمضة، قال: وليس كذلك؛ لأنَّ عبدَ الرَّزَّاق رواه بلفظ: ((وماذا بقي في فيهِ))، وكأنَّ ذا سقطت من ((البخاريِّ))، انتهى ما في ((الفتحِ)).
          وعبارة ابن بطَّالٍ في ((شرحِه)): وما حكاه البخاريُّ عن عطاء: أنَّه إن مضمض ثمَّ أفرغ ما في فيهِ مِن الماء الَّذي تمضمض به لا يضرُّهُ أن يزدردَ ريقه، وما بقيَ في فيهِ، فلا يُوهِم هذا أنَّ عطاءً يُبيحُ أن يزدردَ ما بقي في فيهِ مِن الماء الَّذي تمضمض به، وإنَّما أراد أنَّه إذا مضمض ثمَّ أفرغ ما في فيهِ مِن الماء أنَّه لا يضرُّه أن يزدردَ ريقه خاصَّةً؛ لأنَّه لا ماء فيه بعد تفريغِهِ له، ورواه عبدُ الرزَّاق عن عطاءٍ: ((وماذا بقيَ في فيه))، قال: وأظنُّه سقطَ ذا للنَّاسخ. انتهت.
          وأقولُ: قد يُقال: لا منافاةَ بين النُّسختين؛ لجواز أن تجعلَ ((ما)) المجرَّدة عن ((ذا)) نافيةٌ، أو استفهاميَّةٌ أيضاً للنَّفي، فترجع للأولى، وعلى جعلِها موصُولةً كما قال الشُّرَّاح لا يلزمُ محذورٌ، كما قاله ابن بطَّال وأقرُّوه؛ لجواز أن يُراد بـ((ما بقيَ)) مجرَّدَ أثرِ الماء الَّذي لا يُمكن الاحتراز عنه، كما تقدَّم في كلام ((الإتحاف)).
          وعلى هذا يُحمَلُ رواية أبي الوقت أيضاً: <لا يضيره / أن يزدرده>، فتلتئم الرِّوايات، ولا غلط في شيءٍ منها، فتأمَّله منصفاً.
          وقوله: (وَلَا يَمْضَغُ الْعِلْكَ)... إلخ: من كلام عطاءٍ أيضاً، قال العينيُّ كـ((الفتح)): وكذلك أخرجَه عبد الرزَّاق عن ابن جريجٍ: ((قلت لعطاءٍ: يمضغُ العلك؟ قال: لا، قلت: إنَّه يمجُّ ريقَ العلك ولا يزدردْهُ ولا يمضغه، قال: وقلت له: أيتسوَّك الصَّائم؟ قال: نعم، قلتُ له: أيزدردُ ريقَه؟ قال: لا، قلت: ففعل أيضرُّه؟ قال: لا، ولكن يُنهى عن ذلك))، انتهى.
          ومنه يُعلَم أن ((لا يمضغ)) هنا بإثبات ((لا)) هي الأولى كما في ((الفتح)) وهي روايةُ الأكثرين، وللمستملي كما في ((الفتح)) ولابن عساكر كما في الفرع: <ويمضغُ العلك>، فإمَّا أن يُحمَل على إسقاطِ ((لا)) سهواً من النَّاسخ، وإمَّا أن تكون لبيان أنَّه لا يبطل الصَّوم وإن كُرِهَ، لأنَّه يُجفِّفُ الرِّيق ويُعطِش الصائم، وقال الحنابلةُ كما في ((المنتهى)): يفطر بمضغِ العلكِ إن وجد طعمَه في حلقهِ.
          تنبيه: يمضَغ _بفتح الضاد وضمِّها_ لأكثر الرُّواة، لكن الضَّم لغةٌ قليلٌ، وروايةُ أبي ذرٍّ بالفتح.
          (فَإِنِ ازْدَرَدَ رِيقَ الْعِلْكِ): الإضافة لأدنى ملابسةٍ، وإلَّا فهو ريقُ الفم (لَا أَقُولُ: إِنَّهُ يُفْطِرُ، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ): أي: عند الجميع، وأمَّا عدمُ الفطر، فعندَ الجمهور لما علمت من خلافِ الحنابلةِ، ومحلُّه إذا لم ينفصل منه شيءٌ، وإلَّا فيفطر إن ابتلعَه، قال ابن المنذر: رخَّص مضغَ العلك أكثر العلماء إن كانَ لا يتحلَّب منه شيءٌ، فإن تحلَّب منه شيءٌ فإنَّه يُفطِر به إنِ ابتلعه.
          (فَإِنِ): وفي بعض الأصولِ: <فإذا> (اسْتَنْثَرَ): أي: أخرج الماء من أنفِه، وقيل: استنشق (فَدَخَلَ الْمَاءُ حَلْقَهُ لَا بَأْسَ): أي: به، ولا يضرُّ دخولُ ماءِ المضمضة حينئذٍ لحلقه (إِنْ لَمْ يَمْلِكْ) في المضمضة؛ أي: ردَّه، وإلَّا فيفطرُ، وسقطَ قوله: <فإن استنثر... إلخ> لأبي ذرٍّ وابنِ عساكرَ.