الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب صوم شعبان

          ░52▒ (باب صَوْمِ شَعْبَانَ): أي: استحبابه.
          قال في ((الفتح)): وكأنَّه لم يصرِّح بذلك لما في عمومه من التَّخصيصِ، وفي مطلقه من التَّقييد كما سيأتي، وسمِّي شعبان؛ لتشعُّبهم فيه في طلبِ المياه، أو في الغاراتِ بعد خروج رجب الحرام، وهذا أولى ممَّا قبله، وقيل فيهِ غير ذلك. انتهى.
          وأقول: من الغيرِ ما نقله ثعلب أنَّه إنَّما سمِّي شعبان؛ لأنه شعب؛ أي: ظهر بين رمضان ورجب، وقيل: من التشعُّب بمعنى الاجتماع سمِّي به؛ لأنه يتشعَّب فيه خيرٌ كثيرٌ لرمضان، أو لأنَّهم كانوا يتشعَّبون فيه بعد التَّفرقة، ويجمع على شعابين وشعبانات، ويسمَّى أيضاً وعلاً.
          ففي ((القاموس)): الوعلُ: ككتفِ شعبان، والجمع: أوعالٌ، ووِعلان بالكسر انتهى.
          وممَّا يدلُّ على فضلِ صومه حديث الباب، ولا يلزم منه أنَّ صومه أفضل من صَوم الأشهر الحرم خلافاً لمن قال بذلك، ومنهم القسطلانيُّ، فإنَّه قال: وكثيرٌ من النَّاس يظنُّ أن صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأنَّه شهرٌ حرام وليس كذلك. انتهى.
          والصَّحيح: أن صومها أفضل من صومهِ وأفضلها / المحرم؛ لما رواه مسلم من حديثِ أبي هريرة مرفوعاً: ((أفضلُ الصَّوم بعد رمضان صوم المحرَّم)).
          ولا يعارضه حديث التِّرمذي من طريقِ صدقة بن موسى عن أنسٍ أنَّه قال: سئل النَّبي: أيُّ الصَّوم أفضل بعد رمضان؟ قال: ((شعبان)) لتعظيم رمضان؛ لأن ما في ((الصَّحيح)) أصحُّ على أن التِّرمذي قال فيه: هو حديثٌ غريبٌ، وصدقة ليس بالقويِّ.
          نعم جاء حديث أصحُّ منه كما في ((الفتح))، لكنَّه لا يعارض أيضاً ما في ((الصَّحيح))، وهو ما أخرجه أبو داود والنَّسائي وصحَّحه ابن خزيمة عن أسامةَ بن زيد قال: قلت: يا رسول اللهِ لم أرك تصوم من شهر من الشُّهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ((ذلك شهرٌ يغفل النَّاس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهرٌ ترفع فيه الأعمال إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يرفعَ عملي وأنا صائمٌ)).
          قال في ((الفتح)): ونحوه حديث عائشةَ عند أبي يعلى، لكن قال فيه: ((إنَّ الله يكتبُ كلَّ نفس ميِّتة تلك السَّنة، فأحبُّ أن يأتيني أجلِي وأنا صَائم)) انتهى.
          وقال العينيُّ: وروى النَّسائي عن عائشة ♦ بلفظ: قلتُ لرسولِ الله صلعم: ما لي أراكَ تكثرُ صيامك فيه؟ قال: ((يا عائشة، إنَّه شهر ينسخ فيه ملك الموت من يقبض، وأنا أحبُّ أن لا ينسخَ اسمي إلَّا وأنا صائم)).
          لكن قال المحبُّ الطَّبري: غريب. انتهى.
          فتخصيصه بأكثريَّة الصَّوم، لا لأنَّه أفضل كما علمت من حديثِ مسلم وغيره.
          وأجيب أيضاً: باحتمال أنَّه لم يعلم فضل المحرم إلَّا في آخرِ حياته قبل تمكُّنه من صومهِ، وفيه وجوه أخر ستأتي فافهم.
          ودخل في استحبابِ صيامه صوم يومِ نصفه، بل ورد فيه حديث بخصوصه، وهو ما رواه ابن ماجه عن عليِّ بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلعم: ((إذا كانت ليلة النِّصف من شعبان، فقوموا ليلها وصوموا نهارهَا، فإنَّ الله تعالى ينزل فيها لغروب الشَّمس إلى سماء الدُّنيا فيقول: ألا من يستغفرني))، وفي روايةٍ: ((ألا من مستغفرٍ فأغفر له، ألا مسترزقٍ فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيهِ، ألا كذا ألا كذا حتَّى يطلعَ الفجر)).
          وهذا الحديث ونحوه وإن كان ضعيفاً يعمل به في فضائلِ الأعمال، ومحلُّ استحباب صومه في غير نصفه الثَّاني، وإلَّا فيكره تحريماً عند الشَّافعيَّة، ولا ينعقد ما لم يوافق عادة لهُ، أو يصله بما قبله، أو يكون قضاء، وخرج بصومهِ الصَّلاة فيه، فإن لم يقيِّدها المصلِّي بهيئة خاصَّة، ولا وقت مخصوص فهي مستحبَّة للخبرِ الصَّحيح: ((الصَّلاة خير موضوع، فاستكثر منها أو أقل)).
          ولغير ذلك، وإلَّا فإن كان صلَّاها مائة ركعة يقرأ في كلِّ ركعة بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} عشر مرَّات، وإن شاء صلَّى عشر ركعات يقرأ في كلِّ ركعة بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} مائة مرَّة، فهذه الصَّلاة اختلف فيها عند الشَّافعيَّة، والصَّحيح عندهم عدم صحَّتها.
          ونقل العينيُّ عن صاحب ((التَّلويح)) أنَّه قال: وأمَّا الأحاديث التي في صلاةِ النِّصف من شعبان، فذكر أبو الخطَّاب أنها موضوعة، وفيها حديث عند التِّرمذي مقطوع. انتهى.
          وذكره) كأحاديث أخر، وقد بسطنا الكلام على ذلكَ مع بيان حكمها عند باقي الأئمَّة، وعلى فوائد أخرى في ((تحفة أهل الإيمان)) فيما يتعلَّق برجب وشعبان ورمضان.