الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض}

          ░16▒ (باب): بالتَّنوين وتركه، والثَّاني أولى؛ لعدمِ احتياجه إلى تقدير خبرٍ للمبتدأ؛ أي: قوله تعالى ممَّا يتعلَّق بالصَّوم؛ أي: باب بيان ذكر (قَوْلِهِ تَعَالَى): وفي بعض الأصولِ: <قول الله تعالى>، وفي بعضها: <قول الله ╡> ({وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}): أيُّها المسلمون الصَّائمون رمضانَ في ليلِكم، وإن نمْتُم وصلَّيْتم العشاء، والأمرُ للإباحة، فإنَّه لها بعدَ الحظر، وساق المصنِّف الآيةَ إلى قوله: {اللَّيْلِ} ترجمةً لبيان انتهاء وقت الأكل وغيره الذي أُبيح بعد أن كانَ ممنوعاً منه في صدرِ الإسلام بالوحي غيرِ المتلوِّ، وتقدَّم أنَّ سبب نزوله قصَّةُ قيس بن صرمة أو غيره على ما مرَّ في الباب قبله، فأحلَّ الله ذلك وبيَّن فيه الغاية بقوله تعالى: ({حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ}): ولابن عساكر: <باب قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا}...إلى قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}>.
          قال البيضاوي: الخيط الأبيضُ أوَّل ما يبدو مِن الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود، والخيطُ الأسود ما يمتدُّ معه مِن غبش الليل شبهاً بخيطَين أبيضَ وأسودَ، و{مِنَ الفَجْرِ} بيانٌ لـ{الخَيْطُ الأَبْيَضُ}، واكتفى به عن بيان الخيط الأسود لدلالتِه عليه، وبقوله: {مِنَ الْفَجْرِ} خرجا عن الاستعارةِ إلى التَّمثيلِ كقولك: رأيتُ أسداً من فلانٍ، فإنَّ منِ فلانٍ أخرجه عن مجاز الاستعارةِ إلى التَّشبيه، وزيد {مِنَ الفَجْرِ} حتى كانَ تشبيهاً ولم يترك فتقتصر على الاستعارةِ التي هي أبلغُ من التَّشبيه وأدخل في الفصاحة؛ لأنَّ من شرط المستعارِ أن يدلَّ عليه الحالُ أو الكلام، ولو لم يذكرْ {مِنَ الفَجْرِ} لم يُعلَم أنَّ الخيطين مستعاران، فزيدَ {مِنَ الفَجْرِ} لذلك، فخرج عن الاستعارة وكانَ تشبيهاً بليغاً.
          وقال البرماويُّ كالكرمانيِّ: وبالجملة فاستعمالُ الخيطين في الليل والنَّهار كان استعارةً قبل نزول {مِنَ الفَجْرِ} وبعدها صار مشبَّهاً، كما أنَّ قولك: رأيتُ أسداً مجازٌ، فإذا زدْتَ مِن فلانٍ رجع تشبيهاً؛ لأنَّ الطَّرفَين مذكوران، والاستعارةُ وإن كانت أبلغ من التَّشبيه، لكنَّ الكاملَ من التَّشبيه أبلغُ من الاستعارة الناقصةِ، وهي هنا ناقصةٌ؛ لفواتِ شرطِ حسنها، وهو كونُ المستعار والمستعار له جليًّا بنفسه، معروفاً بين سائر الأقوام، وهذا كان مشتبهاً على بعض الأقوام، انتهى.
          ويجوز أن تكونَ {من} للتَّبعيض، فإنَّ ما يبدو بعض الفجر، واستشكل بأنه يلزمُ أن يأكل في جزءٍ من النَّهار؛ لأنَّ حتَّى للغاية، فيدخل ما بعدها فيما قبلها.
          وأُجيب: بأنَّ الغاية غايتان: غايةُ مدٍّ وهي التي لو لم تُذكَر لم يدخل ما بعدَها في حكم ما قبلَها، ومنه ما هنا، وغايةُ إسقاطٍ وهي التي لو لم تُذكَر لكان ما بعدَها / داخلاً في حكم ما قبلَها، ومنه قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]؛ أي: وأسقطُوا ما بعد المرافق، وقوله عليه السَّلام: ((حتَّى يؤذِّنَ ابنُ أمِّ مكتوم))، فتأمَّل.
          ولمَّا بيَّن تعالى أنَّ مبدأ الصوم من الفجر ذكرَ منتهاه وغايته فقال: ({ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}): فهو آخرُ وقته، وذلك بغروب الشمس، فاللَّيل خارجٌ عنه، فينتفي صوم الوصال.
          (فِيهِ) أي: يدخل في هذا الباب (الْبَرَاءُ): أي: ابن عازبٍ ☺؛ أي: حديثه الموصول في الباب قبله، والجملةُ من المبتدأ المؤخَّر وخبره المقدَّم مستأنفةٌ استئنافاً بيانيًّا، ولابن عساكرَ: <عن البراء> (عَنِ النَّبِيِّ صلعم): وبما تقرَّر مِن أنَّ المراد حديث البراء في الباب قبلَه _وبذلك صرَّح في ((الفتح))_ يُعلَم ما في قول الكرمانيِّ، لكن لمَّا لم يكن على شرطه لم يذكره فيه، ثم رأيْتُ البرماويَّ اعترضه فقال: هو عجيبٌ، فإنَّ البخاريَّ أخرجه في الباب قبله، ومثله في العينيِّ.