الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب فضل الصوم

          ░2▒ (باب فَضْلِ الصَّوْمِ): أي: من حيث هو، لا بقيدِ صوم رمضان، فالثَّابت لمطلقه وعامِّه ثابتٌ لمقيَّده، وخاصة بالأولى، ويدلُّ على فضله آياتٌ وأحاديثُ، فمن الآيات قوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]. فالصَّابرون: الصَّائمون على أكثر الأقوال، قال الخطابيُّ: سمَّى النبيُّ الصوم صبراً، وسمَّى شهرَ رمضان شهرَ الصبر، فقد روى التِّرمذي من حديث أبي هريرة: ((الصَّومُ نصفُ الصَّبرِ))، وروى أبو نُعَيم في ((الحلية)) والخطيب في ((تاريخه)) من حديث ابن مسعودٍ بسندٍ حسنٍ: ((الصَّبرُ نصفُ الإيمانِ))، وبهذين الحديثين يُعلَم: أن الصوم ربعُ الإيمانِ، فهذا من فضل الصَّوم.
          وقد فسَّرها البيضاويُّ بما هو أعمُّ فقال: إنما يوفَّون على مشاقِّ الطَّاعة من احتمال البلاءِ ومهاجرة الأوطان لأجلها {أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أجرٌ لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب، قال: وفي الحديث: ((تُنصَبُ الموازينُ يومَ القيامةِ لأهلِ الصَّلاةِ والصَّدقةِ والحجِّ فيُوفَّونَ أجورَهُم، ولا يُنصَبُ لأهلِ البلاءِ، بل يُصبُّ عليهم الأجرُ / صبًّا حتَّى يتمنَّى أهلُ العافية)) إلى غير ذلك من الآياتِ الدَّالَّة على فضل الصَّومِ، كما ذكرنا جملة من ذلك في أوَّلِ ((تحفة أهل الإيمان)).
          ومن الأحاديث الواردة في هذا الباب وفي غيره كحديث مسلمٍ عن أبي سعيدٍ الخُدري أنَّ النبي صلعم قال: ((ما مِن عبدٍ يصومُ يوماً في سبيلِ اللهِ تعالى إلَّا باعَدَ اللهُ بذلكَ اليومِ وجهَهُ عن النَّارِ سبعينَ خريفاً)).
          وكحديث التِّرمذي عن أبي أُمامةَ ☺ أنَّ النبي صلعم قال: ((مَن صامَ يوماً في سبيلِ اللهِ بعَّدَ اللهُ وجهَهُ عن النَّارِ مسيرةَ مائةِ عامٍ كركض الفرس الجواد)).
          وكالحديث الذي رواه أبو الشَّيخ والدَّيلمي عن أنسٍ ☺ أنَّه صلعم قال: ((يُوضَعُ للصَّائمينَ يومَ القيامةِ مائدةٌ من ذهبٍ يأكلونُ منها والنَّاسُ ينظرونَ))، وروى النَّسائي بسندٍ صحيحٍ عن أبي أُمامة قال: قلت: يا رسول الله! مُرْني بأمرٍ آخذه عنك، قال: ((عليكَ بالصَّوم فإنَّهُ لا مثلَ لهُ))، وفي روايةٍ: ((لا عدْلَ لهُ)).
          وبهذا الحديث وشبهه استدلَّ بعضهم كابن عبد البَرِّ على ترجيحِ الصِّيام وتفضيله على الصَّلاة، والمشهورُ عند الجمهورِ كما في ((الفتح)): ترجيحُ الصلاة على سائر الأعمالِ إلا الإسلام لخبر ((الصحيحَين)): ((أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: الصَّلاةُ لوقتِهَا))، وللخبر الصحيح: ((الصَّلاةُ خيرٌ موضوعٌ فاستكْثِرْ منها أو أقلَّ))، وخبرُ أبي داودَ وغيرِهِ: ((واعلَمُوا أنَّ خيرَ أعمالِكُم الصَّلاةُ)).
          قال في ((المجموع)): والخلافُ في الإكثارِ من أحدهما مع الاقتصَارِ على الآكَدِ من الآخر، وإلَّا فصومُ يومٍ أفضل من ركعتَين بلا شكٍّ، انتهى.