الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: يفطر بما تيسر عليه بالماء وغيره

          ░44▒ (بَابٌ يُفْطِرُ): أي: الصائم (بِمَا تَيَسَّرَ): أي: سهلَ (عليه): وسقط لابن عساكر لفظُ: <عليه> (بالْمَاءِ): متعلِّقٌ بـ((تيسَّر))، والأقرب جعله بدلاً من قوله: / ((بما تيسَّر))، وفي بعض الأصول: <من الماء> كما في ((المنحة)) فهو بيانٌ لما تيسَّر، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهني: <بالماء> كذا في ((الفتح)) (وَغَيْرِهِ): أي: وغير الماء، مِن تمرٍ أو زبيبٍ أو غيرهما.
          قال في ((الفتح)): حديث ابن أبي أوفى ظاهرٌ فيما ترجم له، قال: ولعلَّه أشار إلى أن قوله صلعم: ((مَن وجد تمراً فليفطرْ عليه، ومَن لا فليفطر على الماء)) ليس على الوجوب، وهو حديثٌ أخرجه الحاكم من طريق عبد العزيز بن صهيبٍ مرفوعاً، وصحَّحه الترمذيُّ وابن حبَّان من حديث سلمان بن عامرٍ، وشذَّ ابن حزمٍ فأوجبَ الفطر على التَّمر، وإلَّا فعلى الماء، انتهى.
          قال الزين العراقيُّ: هو مخالفٌ لما يقوله أصحابُنَا من استحبَابِ الفطرِ على شيءٍ حُلو، وعلَّلوه بأن الصَّوم يغضُّ البصرَ، والإفطارُ على الحلو يقويِّ البصرَ.
          وقال العينيُّ: وذهب ابن حزمٍ إلى وجوب الفطر على التَّمرِ، فإن لم يجده فعلى الماءِ، فإن لم يفعلْ فهو عاصٍ ولا يبطل صومه بذلك، انتهى، وقال القسطلانيُّ كالعينيِّ: وفي ((الترمذيِّ)) وغيره وصحَّحوه: ((إذا كان أحدُكم صائماً فليفطرْ على التمرِ، فإنْ لم يجد التمرَ فعلى الماءِ فإنَّه طهورٌ))، وروى الترمذيُّ وحسَّنه: ((أنه صلعم كان يفطرُ قبل أن يصلِّي على رطباتٍ، فإن لم يكنْ فعلى تمراتٍ، فإن لم يكن حسَا حسواتٍ من ماءٍ)).
          ومقتضاه تقديم الرطب على التمر، وهو على الماءِ، والغرض من ذلك كما قالَه المحبُّ الطبريُّ: أن لا يدخلَ جوفه أوَّلاً ما مسَّته النار، قال: ويحتمل أن يُراد هذا مع قصد الحلاوةِ تفاؤلاً، قال: ومن كانَ بمكَّة سُنَّ له أن يُفطر على ماء زمزم لبركتِه، ولو جمع بينه وبين التَّمرِ فحسنٌ، انتهى.
          وردَّ بأن هذا اختيارٌ له استحساناً مع أنَّه مخالفٌ للأخبار، وللمعنى الَّذي شرع الفطر على التَّمر لأجله وهو حفظ البصر، وقيل: لأنَّ التَّمرَ إذا نزل إلى المعدة فإنْ وجدها خاليةً حصل الغذاء، وإلَّا أخرج ما هناك من بقايا الطَّعام، وهذا لا يوجدُ في ماءِ زمزم.
          وقال بعضُهم: الأَولى في زماننا أن يفطرَ على ماءٍ باردٍ يأخذُهُ بكفِّه من النَّهر؛ ليكون أبعدَ عن الشُّبهة، قال في ((المجموع)): وهذا شاذٌّ، والمذهبُ _وهو الصواب_ فطره على تمرٍ ثمَّ ماءٍ، كأنَّ البخاريَّ لم يثبت عنده حديثٌ على شرطِه في استحبابِ تقديمِ التَّمر، بل الرطب على الماء، فليتأمَّل.
          وقال العينيُّ: وروينا عن ابن عمر: أنَّه كان ربَّما أفطرَ على الجمَاع، رواه الطبرانيُّ عنه بإسنادٍ حسنٍ، فيحتملُ أنَّ ذلك لغلبةِ الشَّهوة عليه، ويحتملُ أنَّه لتحقُّق الحلِّ مِن أهله وتردُّده في بعضِ المأكولاتِ، انتهى.