الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: شهرا عيد لا ينقصان

          ░12▒ (بَابٌ): بالتنوين (شَهْرَا عِيدٍ): أي: رمضان وذو الحجَّة (لَا يَنْقُصَانِ): بضمِّ القاف، هذه التَّرجمة هكذا لفظُ حديثٍ أخرجه البيهقيُّ من طريق يحيى بن محمَّد بن يحيى عن مسدَّدٍ، قاله في ((الفتح))، وقال العينيُّ: هذه الترجمة عين متن الحديث الذي رواه الترمذيُّ مِن حديث عبدِ الرحمن بن أبي بكرةَ عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلعم: ((شهرا عيدٍ لا ينقصانِ، رمضانُ وذو الحجَّةِ)) ولم يذكر في التَّرجمة رمضان وذو الحجَّة، انتهى.
          وقد اختلف العلماءُ في معنى هذا الحديثِ اختلافاً كثيراً، فمنهم مَن حمله على ظاهرِه فقال: لا يكون رمضان ولا ذو الحجَّةِ إلَّا ثلاثين، وهو مردودٌ معاندٌ للمشاهَدِ الموجود، وقال الطحاويُّ: الأخذ بظاهره أو حمله على نقص أحدهما يدفعُه العيان، قال: لأنَّا وجدْناهما ينقصان معاً في أعوامٍ، ويكفي في ردِّه قوله صلعم: ((صومُوا لرؤيتِه وأفطروا لرؤيتِهِ، فإن غمَّ عليكُم فأكملُوا العدَّةَ)) فإنَّه لو كان رمضان أبداً ثلاثين لم يحتجْ إلى هذا، ومنهم مَن تأوَّله على معنًى يليق به من معانٍ كثيرةٍ، أحدها: ما ذكره بقولِه:
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ): أي: البخاريُّ (قَالَ إِسْحَاقُ): أي: ابن راهويه، وقيل: ابن سويد بن هبيرةَ العدَوي، ورجَّح في ((الفتح)) الأوَّل، فنقل الترمذيُّ له في ((جامعه)) عن إسحاق بن راهويه، واختار العينيُّ: أنَّه الثَّاني منتصراً لصَاحبي ((التَّلويح)) و((التوضيح)) في تفسيرِهما له بالثَّاني.
          (وَإِنْ كَانَ): أي: كلُّ واحدٍ من شهري العيد (نَاقِصاً): أي: في العدد (فَهْوَ تَامٌّ) وفي أكثر الأصول فهو تمام بميمين بينهما ألف؛ أي: في الأجر والثَّوابِ، ويحتملُ / أنَّ المعنى وإن كان؛ أي: أحدهما ناقصاً، وقد يدلُّ له إفراد الضَّمير فيه وفي ((فهو تامٌّ))، فتدبَّر.
          (وَقَالَ مُحَمَّدٌ): أي: ابن سيرين، وقيل: المراد به نفس البخاريِّ (لَا يَجْتَمِعَانِ كِلَاهُمَا): مبتدأٌ خبره (نَاقِصٌ) والجملة حاليَّةٌ؛ أي: لا يجتمعان في سنةٍ واحدةٍ ناقصين، وسقط: <قال أبو عبد الله...> إلى هنا لأبي ذرٍّ وابن عساكرَ.
          قال في ((الفتح)): أما لفظ إسحاق العدوي فأخرجه أبو نعيم في ((مستخرجه)) من طريق أبي خليفة، وأبي مسلم الكجي جميعاً عن مسدد بهذا الإسناد بلفظ: ((لا ينقص رمضان ولا ينقص ذو الحجة)).
          وقال في ((الفتح)) بعد ذكر ما تقدَّمَ: ثمَّ وجدتُ في نسخةِ الصَّغانيِّ عقب الحديث ما نصُّهُ: قال أبو عبدِ اللهِ: قال إسحاقُ: تسعة وعشرون يوماً تام، وقال أحمدُ بن حنبل: إنَّ نقص رمضان تمَّ ذو الحجَّةِ، وإن نقص ذو الحجةِ تمَّ رمضان.
          وقال إسحاق: معناه: وإن كان تسعاً وعشرين فهو تمامٌّ غير نقصانٍ، قال: وعلى مذهب إسحاقَ يجوزُ أن ينقصا معاً في سنةٍ واحدةٍ، وروى الحاكم في ((تاريخِه)) بإسنادٍ صحيحٍ: أنَّ إسحاق بن إبراهيم سُئِلَ عن ذلك فقال: ((إنَّكم ترون العدد ثلاثين، فإذا كانَ تسعاً وعشرين ترونه نقصاناً، وليس ذلك بنقصانٍ)).
          ووافق أحمد على اختيارِه البزَّار كما ذكرَهُ قاسمٌ في ((الدلائلِ)) عنه فقال: سمعت البزَّارَ يقول: معناه لا ينقصانِ جميعاً في سنةٍ واحدةٍ، قال: ويدلُّ عليه رواية زيد بن عقبةَ عن سمرةَ بن جندبٍ مرفوعاً: ((شهرا عيدٍ لا يكونان ثمانيةً وخمسين يوماً)).
          وذكر ابن حبَّانَ لهذا الحديث معنيينِ: أحدهما: ما قاله إسحاقُ، والآخر: أنَّ المراد أنَّهما في الفضل سواءٌ؛ لقوله في الحديث الآخر: ((ما مِن أيَّامٍ العملُ فيها أفضلُ من عشر ذي الحجَّةِ))، وذكر القرطبيُّ أنَّ فيه خمسةَ أقوالٍ، فذكر نحو ما تقدَّمَ وزاد: أنَّ معناه: لا ينقصان في عامٍ بعينِه، وهو العام الَّذي قال فيه صلعم تلك المقالة، حكاهُ ابن بزيزة وأبو الوليد بن رشيد والمحبُّ الطبريُّ عن ابن فورك، وقيل: إنَّ معناه: لا ينقصان في الأحكام، وإن كانَا تسعةً وعشرين لا ينقصان عن حكمهما إذا كانا ثلاثين، وبهذا جزم البيهقيُّ وقبله الطحاويُّ، وقيل: إن معناه: لا ينقصان في نفس الأمرِ لكن ربَّما حال دون رؤية الهلال حائلٌ، قال في ((الفتح)): وأشار إلى هذا ابنُ حبَّان أيضاً، ولا يخفى بعدُه، انتهى.
          ونسب هذا القولَ الترمذيُّ للإمام أحمد، وهو منسوبٌ أيضاً للمصنِّف على ما مرَّ آنفاً، وقيل: إن معناه لا ينقصان معاً في سنةٍ واحدةٍ على طريق الأكثر الأغلبِ.
          قال في ((الفتح)): وهذا أعدلُ ممَّا تقدَّم؛ لأنَّه ربَّما وجد وقوعهما ووقوع كلٍّ منهما تسعةً وعشرين، وقال الزينُ ابن المنيِّرِ: لا يخلو شيءٌ من هذه الأقوال عن الاعتراضِ، وأقربها: أنَّ المراد أن النقصَ الحسِّيَّ باعتبار العددِ ينجبرُ بأنَّ كلًّا منهما شهر عيد عظيمٍ لا ينبغي وصفهما بالنُّقصان، قال في ((الفتح)): وهذا يرجعُ إلى تأييد قولِ إسحاقَ، انتهى، فتدبَّر.
          وقال الكرمانيُّ: والأصحُّ أنَّ المراد أنَّ هذين الشَّهرين وإن نقصَ عددُهما في الحسابِ، فحكمُها على الكمال في العبادةِ؛ لئلَّا ينقدح في صدورِهم شكٌّ إذا صاموا تسعةً وعشرين، أو إن وقعَ الخطأُ في عرفةَ ولم يكن في حجِّهم نقصٌ، ولا يُشكِلُ الأمر بأن نقصانَ ذي الحجَّة لا يترتَّب عليه حكمٌ؛ لأنَّ الحجَّ إنما يقع في العشر الأول منه؛ لأنه قد يكونُ في أيَّامِ الحجِّ من الإغماء والنقصانِ مثلُ ما يكون في آخر رمضان بأن يغمى هلال ذي القعدةِ، ويقع فيه الغلطُ بزيادة يومٍ أو نقصانه، فيقع عرفة في اليوم الثامن أو العاشر منه، فمعناه: أنَّ أجرَ الواقفين بعرفةَ في مثله لا ينقص عمَّا لا غلطَ فيه، انتهى ملخَّصاً.
          وقال في ((الفتح)): واستشكلَ بعضُ العلماء الوقوفَ في الثامن، وليس بمشكلٍ؛ لأنَّه ربَّما ثبتتِ الرؤية بشاهدين أنَّ أوَّلَ ذي الحجَّةِ الخميس مثلاً، فوقفُوا يوم الجمعة، ثم تبيَّن خلافه وأنَّهما شهدا زوراً، انتهى.
          وأقول: يصحُّ وقوف العاشرِ غلطاً إن كثر الواقفونَ بخلاف الثَّامن على الصَّحيح فيهما عند الشافعيَّة.