الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: إذا نوى بالنهار صومًا

          ░21▒ (بَابُ إِذَا نَوَى): أي: الشَّخص (بِالنَّهَارِ صَوْماً): نكرةٌ؛ ليشملَ الفرضَ والنَّفل والأداء والقضاء، وجوابُ ((إذا)) محذوفٌ؛ أي: هل يصحُّ أو لا؟ ولم يذكرْه، لاختلاف العلماءِ فيه، ولأنَّ فيه تفصيلاً، فمنهم مَن خصَّ الجوازَ بالنَّفل، وتكون النيَّة قبلَ الزَّوال كالشَّافعيةَّ، ومنهم مَن زاد: أداء رمضان، فجوَّزها كالحنفيَّة إلى الضَّحوة الكبرى، وقيل: مطلقاً، وسيأتي بسطُهُ، وظاهر صنيعِ المصنِّف بما أوردَه يقتضي أنَّه يرى جواز النية نهاراً في الفرضِ والنَّفل، فتأمَّل.
          وأشار إلى أنَّ محلَّها الأصلي: الليل، ويدخل وقتها بغروب الشَّمس بكمال فرضِها وإن لم يتعاطَ مفطراً.
          (وَقَالَتْ أُمُّ الدَّرْدَاءِ): بالمدِّ بفتح الدالين المهملتين بينهما راءٌ ساكنةٌ، واسمها: خَيْرة _بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتية بعدها راء فهاءُ تأنيثٍ_ صحابيةٌ، زوجُ أبي الدَّرداء، وهي الكبرى، ولا روايةَ لها في الكتب الستَّة، قاله في ((التقريب))، فليتأمَّل مع ما هنا، ولأبي الدَّرداء زوجةٌ أخرى تُكنى أمَّ الدَّرداء، واسمُها هجيرة بالهاء والجيم، وقيلَ: بالعكسِ مصغَّرة، وهي الصُّغرى، وهي تابعيَّةٌ ثقةٌ فقيهةٌ، وتقدَّمت كأبي الدرداء في باب فضل الفجرِ في جماعةٍ.
          (كَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ): أي: ابن زيد بن قيسٍ الأنصاري، صحابيٌّ جليلٌ، ماتَ بدمشق في خلافة عثمان، وقبره وقبر زوجته الصُّغرى بباب الصَّغير مشهورانَ، واسمه عُوَيمر، وقيل: عامر، قاله النوويُّ في ((التهذيب))، وأمَّا ما اشتُهِر الآن أنَّ قبره في قلعة دمشق فلا أصل له، وإنَّما يُقال: إنَّ منزله كان بها، فعمر بعضُ النَّاس قبراً، وبنى عليه ضريحاً، ورخَّمه وكتب عليه أنَّه قبرُ أبي الدَّرداء، فهو تزويرٌ وإغراضٌ، لكن قال الحافظ ابن حجرٍ في ((التَّقريب)): مختلفٌ في اسم أبيه، وأمَّا هو فمشهورٌ بكنيتِه، وقيل: اسمه عامرٌ، وعُوَيمر لقبٌ له، انتهى.
          ومِن شعره كما في ((الاستيعاب)):
يريد المرء أن يُؤتى مناه                     ويأبى الله إلَّا ما أرادا
يقولُ المرء: فائدتي ومالي                     وتقوى الله أفضل ما استفادا
          (يَقُولُ: عِنْدَكُمْ): بتقدير همزة الاستفهام، وثبتَتْ في أكثر الأصول (طَعَامٌ؟ فَإِنْ قُلْنَا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ يَوْمِي هَذَا): أي: بقيَّة يومي، وينوي حينئذٍ، فتنسحب النيَّة على ما مضى من أوَّل النهار، فتحصل المطابقة، وأثرها: وصله ابنُ أبي شيبةَ عنها بلفظ: قالت: ((كان أبو الدرداء يغدونا أحياناً ضحًى، فيسأل الغداء، فربَّما لم يوافقْه عندنا فيقول: إذاً أنا صائمٌ))، ورواه عبدُ الرزَّاق عنها وعن قتادة بلفظ: ((أنَّ أبا الدَّرداء كان إذا أصبح سأل أهله الغداء، فإن لم يكن قال: أنا صائمٌ))، ورواه من طريقٍ آخرَ عنها عن أبي الدَّرداء بلفظ: ((أنَّه كان يأتي أهلَه حين ينتصف النَّهار))، وفي لفظٍ: ((أنَّه كان ربَّما دعا بالغداء فلا يجده، فيفرض عليه الصَّوم ذلك اليوم)).
          (وَفَعَلَهُ): أي: وصنع مثل ما صنع أبو الدَّرداء ☺ (أَبُو طَلْحَةَ): أي: زيد بن سهلٍ الأنصاري ☺، ممَّا وصله عبد الرزَّاق من طريق قتادة عن أنسٍ بلفظ: ((أنَّ أبا طلحةَ كانَ يأتي أهله فيقول: هل مِن غداء؟ فإن قالوا: لا، صامَ يومه ذلك، قال قتادةُ: وكان معاذُ بنُ جبلٍ يفعله))، ورواه ابنُ أبي شيبةَ مِن طريق حُمَيدٍ عن أنسٍ بنحو هذا، وزاد: ((وإن كان عندهُم أفطرَ)) لكنَّه لم يذكر قصَّة معاذٍ.
          (وَأَبُو هُرَيْرَةَ): أي: وفعلَه أبو هريرة، ممَّا وصله البيهقي من طريق سعيد بن المسيَّب قال: ((رأيت أبا هريرةَ يطوف بالسُّوق، ثمَّ يأتي أهله فيقول: هل عندكم شيءٌ؟ فإن قالوا: لا، قال: أنا صائمٌ)).
          (وَابْنُ عَبَّاسٍ): أي: ممَّا وصله الطَّحاوي عنه / أنَّه كان يُصبِح حتى يظهر، ثم يقول: والله لقد أصبحتُ وما أُريد الصوم، وما أكلت من طعامٍ ولا شرابٍ منذ اليوم، ولأصومنَّ يومي هذا.
          (وَحُذَيْفَةُ): أي: ابن اليمان، ممَّا وصله عبد الرزَّاق وابن أبي شيبةَ عن أبي عبد الرَّحمن السَّلمي قال: ((قال حذيفة: مَن بدا له الصيام بعدما تزول الشمسُ، فليصمْ))، ولفظ ابن أبي شيبة: ((أنَّ حذيفة بدا له في الصَّوم بعدما زالت الشَّمس فصامَ)).
          تنبيه: جاء نحو ما تقدَّم عن أبي الدَّرداء ☺ من حديث عائشةَ مرفوعاً، أخرجه مسلمٌ وأصحاب ((السُّنن)) عنها أنَّها قالَت: ((دخل عليَّ النبي صلعم ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ قلنا: لا، قال: فإني إذاً صائمٌ، ثم أتى يوماً آخر فقلنا: يا رسول الله، أُهدِي لنا حيسٌ فقال: أدنيهِ فلقد أصبحتُ صائماً، فأكل))، قال النوويُّ على ما في ((الفتح)): في هذا الحديث دليلٌ للجمهورِ في أنَّ صوم النَّافلة يجوز بنيَّةٍ في النَّهار وقبل الزَّوال للشَّمس، قالَ: وتأوَّله الآخرون على أنَّ سؤاله ((هل عندكم شيء؟))، لكونه كان نوى الصَّوم من الليل، ثمَّ ضعفَ عنه وأراد الفطر لذلك، قال: وهو تأويلٌ فاسدٌ، وتكلُّفٌ بعيدٌ، انتهى.
          وأقولُ: في كونه تأويلاً فاسداً توقُّفٌ مع قوله في آخر الحديث: ((فلقد أصبحْتُ صائماً)) وكذا في قوله: فيه دليلٌ للجمهور...إلخ بالنِّسبة لتقييد النيَّة بما قبل الزَّوال، إذ ليس فيه ما يدلُّ على ذلك كحديث أبي الدَّرداء المارِّ آنفاً، وكأنَّه راعى روايةً أخرى لعائشةَ: ((هل عندكُم من غداءٍ...)) الحديث، إلَّا أن يكون لأنَّه الواقع، فتأمَّل.
          وقال ابنُ المنذر: اختلفُوا فيمَن أصبح لم يتناول مفطراً، ثمَّ بدا له أن يصومَ تطوُّعاً، فقالت طائفةٌ: له أن يصوم متى بدا له، فذكر من تقدَّم من الصَّحابة، وزاد: ابنَ مسعودٍ وأبا أيُّوب وغيرهما، قال: وبه قال الشَّافعيُّ وأحمد، قال: وقال ابنُ عمر: لا يصوم تطوُّعاً حتَّى يجمعَ من الليل أو يتسحَّر، وقال مالكٌ في النَّافلة: لا يصُوم إلَّا أن يبيِّتَ، إلَّا إن كان يسردُ الصَّوم، فلا يحتاجُ إلى التَّبييتِ، وقال أهلُ الرَّأي: مَن أصبحَ مفطراً، ثمَّ بدا له أن يصومَ قبل منتصفِ النَّهار أجزأَه، وإن بدا له ذلك بعد الزَّوال لم يجزه، انتهى.
          وما ذكره عن الشَّافعيِّ من الجواز مطلقاً قبل الزوال أو بعده أحدُ قولَين له، والصَّحيح عنده تخصيصُ ذلك بما قبل الزَّوال.
          قال في ((الفتحِ)): والمعروفُ عن مالكٍ واللَّيث وابن أبي ذئبٍ: أنَّه لا يصحُّ صوم التطوُّع إلَّا بنيَّةٍ من الليل، انتهى، واستدلُّوا بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام الذي رواه أصحاب ((السُّنن)) عن حفصةَ: ((أنَّ النبيَّ قال: مَن لم يبيِّتِ الصِّيام من اللَّيل فلا صيامَ له))؛ لشمولِه للفرض والنَّفل، ولحديثِ: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات)) فالإمساكُ أوَّل النهار عملٌ بلا نيَّةٍ، وقياساً على الصَّلاة، فتأمَّل.
          وقال العينيُّ: اختلف العلماء فيمَن ينوي الصَّوم بعد طلوعِ الفجر، فقال الأوزاعيُّ ومالكٌ والشافعيُّ وأحمد بن حنبل وإسحاقُ: لا يجوز صوم رمضان إلَّا بنيَّةٍ من اللَّيل، وهو مذهبُ الظَّاهريَّة، وقال النَّخعيُّ والثَّوري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمَّدٌ وزُفَر: تجوز النيَّة في صوم رمضان، والنَّذر المعيَّن، وصوم النَّفل إلى ما قبلَ الزوال، انتهى، بخلاف صوم المسافر والمريض، فلا بدَّ فيه من النِّية ليلاً عندهم.