نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام

          3632- (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ) أي: ابن الحصين بن جابر، أبو إسحاق السُّلمي السَّرماري، وسرمار: قريةٌ من قرى بخارى، قال: (أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ) بالتصغير (ابْنُ مُوسَى) بن باذام، أبو محمد العبسي الكوفي، وهو أحدُ مشايخ البخاري، قال: (أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ) أي: ابن يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي (عَنْ) جدِّه (أَبِي إِسْحَاقَ) عَمرو بن عبد الله السَّبيعي (عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ) الأزدي الكوفي أدرك الجاهلية (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ☺) أنَّه (قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ) أي: ابن النُّعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن النَّبيت، وهو عَمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأشهليِّ يكنى: أبا عَمرو، أسلم بالمدينة بين العقبة الأولى والثانية على يدي مصعبِ بن عُمير وشهد بدراً وأُحداً والخندق، فرُمِي يوم الخندق بسهمٍ فعاش شهراً، ثم انتفضَ جرحه فمات منه.
          (مُعْتَمِراً) نصب على الحال، وكانوا / يعتمرون من المدينة قبل أن يعتمرَ رسول الله صلعم (فَنَزَلَ) أي: سعد بن معاذ ☺ حين دخوله مكَّة لأجل العمرة (عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أَبِي صَفْوَانَ) وهو أُمَيَّة _بضم الهمزة وفتح الميم المخففة وتشديد المثناة التحتية_ ابن خَلَف _بالمعجمة واللام المفتوحة_ ابن وهب الجُمَحي _بضم الجيم وفتح الميم وبالمهملة_ ويكنى بأبي صفوان، وكان من كبار المشركين.
          (وَكَانَ أُمَيَّةُ إِذَا انْطَلَقَ إِلَى الشَّأْمِ) يعني: لأجل التِّجارة (فَمَرَّ بِالْمَدِينَةِ) لكونها على طريقه (نَزَلَ عَلَى سَعْدٍ) وكان مؤاخياً معه (فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ: انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفَلَ النَّاسُ انْطَلَقْتُ فَطُفْتُ) بالخطاب فيهما وذلك لأنَّه وقت غفلة وقائلة، وفي رواية البخاري في «أوَّل المغازي» [خ¦3950]: ((فلمَّا قدم رسول الله صلعم انطلقَ سعد معتمراً، فنزل على أميَّة بمكة، فقال أميَّة: انظرْ لي ساعة خلوة لعلِّي أن أطوفَ بالبيت، فخرجَ به قريباً من نصف النَّهار)).
          (فَبَيْنَا سَعْدٌ يَطُوفُ إِذَا أَبُو جَهْلٍ) يعني: قد حضر، ويروى: <إذ رآه أبو جهل>. وفي رواية «المغازي»: فخرج به؛ أي: فخرج أبو أمية بسعد قريباً من نصف النَّهار، فلقيهما أبو جهل، فقال: يا أبا صفوان من هذا معك؟ فقال: هذا سعدٌ، فقال أبو جهل يعني لسعد: ألا أراك تطوفُ بمكة آمناً وقد أويتُم الصُّباة، وزعمتُم أنَّكم تنصرونهم وتعينونهم، أما والله لولا أنَّك مع أبي صفوان ما رجعتُ إلى أهلك سالماً.
          قوله: الصُّبَاة _بضم الصاد المهملة وتخفيف الموحدة_: جمع صابئ، مثل: قضاة جمع: قاضٍ، وكانوا يسمون النَّبي صلعم وأصحابه الذين هاجروا إلى المدينة: صُباة، من صبا: إذا حال من دينه.
          (فَقَالَ: مَنْ هَذَا الَّذِي يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ؟ فَقَالَ) أي: أميَّة (سَعْدٌ) أي: هو سعد (فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَتَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ آمِناً وَقَدْ آوَيْتُمْ مُحَمَّداً وَأَصْحَابَهُ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَتَلاَحَيَا بَيْنَهُم) أي: تخاصما وتنازعَا، وقيل: تسابَّا؛ يعني: سعد بن معاذ وأبو جهل.
          (فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ) بفتحتين: هو عدو الله أبو جهل، واسمه: عَمرو بن هشام المخزومي، وكنَّاه رسول الله صلعم / بأبي جهل (فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي) أي: فإنّ أبا جهلٍ سيد أهل الوادي أراد به أهل مكة (ثُمَّ قَالَ سَعْدٌ) أي: لأبي جهل: (وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لأَقْطَعَنَّ مَتْجَرَكَ بِالشَّأْمِ) أي: تجارتك، وفي رواية «المغازي» [خ¦3950]: ((أما والله لئن منعتَنِي هذا لأمنعنَّك ما هو أشد عليك)) وكان قادراً على ذلك؛ لأنَّه كان سيِّد قبيلة الأوس، ومن أعاظم الأنصار.
          (قَالَ: فَجَعَلَ أُمَيَّةُ يَقُولُ لِسَعْدٍ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَكَ، فَجَعَلَ يُمْسِكُهُ فَغَضِبَ سَعْدٌ، فَقَالَ: دَعْنَا عَنْك) أي: اترك محاماتكَ لأبي جهل (فَإِنِّي سَمِعْتُ مُحَمَّداً صلعم يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ) وفي رواية: <أنَّهم قاتلوك قال: بمكة؟ قال: لا أدري> (قَالَ: إِيَّايَ) أي: قال أميَّة: إيَّاي؟ (قَالَ: نَعَمْ) أي: قال سعدٌ: نعم إيَّاك (قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ إِذَا حَدَّثَ، فَرَجَعَ إِلَى امْرَأَتِهِ) أي: فرجعَ أميَّة إلى امرأته.
          (فَقَالَ: أَمَا تَعْلَمِينَ مَا قَالَ لِي أَخِي الْيَثْرِبِيُّ) أراد به سعداً، فنسبه إلى يثرب مدينة الرَّسول صلعم ، وإنما قال له «أخي» يريد في المصاحبة والمودة والصَّداقة لا في النَّسب ولا في الدين. وفي رواية المغازي: ((ففزعَ لذلك أميَّة فزعاً شديداً، فلمَّا رجع إلى أهله، قال: يا أمَّ صفوان ألم تري ما قالَ لي سعد)) [خ¦3950].
          (قَالَتْ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّهُ سَمِعَ مُحَمَّداً يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلِي، قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ) ويروى: <ما يكذب محمد> (قَالَ: فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى بَدْرٍ) أي: فلمَّا خرج أهل مكَّة إلى بدر (وَجَاءَ الصَّرِيخُ) فعيل من الصُّراخ، وهو صوتُ المستصرخ؛ أي: المستغيث.
          قال في «التوضيح»: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ وهو أنَّ الصَّريخ جاءهم فخرجوا إلى بدرٍ، أخبرهم أنَّه صلعم وأصحابه خرجوا إلى عير أبي سفيان، فخرجتْ قريش آشرين بطرين مُوقنين من عند أنفسهم أنَّهم غالبون، فكانوا ينحرون يوماً عشرة من الإبل ويوماً تسعة.
          (قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَمَا ذَكَرْتَ / مَا قَالَ لَكَ أَخُوكَ الْيَثْرِبِيُّ، قَالَ: فَأَرَادَ أَنْ لاَ يَخْرُجَ) أي: أراد أميَّة أن لا يخرجَ من مكَّة مع قريش إلى بدرٍ، وفي «المغازي»: ((فقال أمية: والله لا أخرج من مكة)) (فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ الْوَادِي فَسِرْ يَوْماً أَوْ يَوْمَيْنِ فَسَارَ مَعَهُمْ فَقَتَلَهُ اللَّهُ) وفي «المغازي»: فلمَّا كان يوم بدرٍ استنفرَ أبو جهل الناس فقال: أدركوا عيركُم، فكره أميَّة أن يخرجَ فأتاه أبو جهلٍ فقال: يا أبا صفوان إنَّك متى يراك الناس قد تخلَّفت وأنت سيِّد أهل الوادي تخلَّفوا معك، فلم يزل به أبو جهل حتى قال: أما إذا غلبتَنِي فوالله لأشترينَّ أجود بعير بمكَّة، ثمَّ قال أميَّة: يا أمَّ صفوان جهزيني، فقالت له: يا أبا صفوان، وقد نسيت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: لا ما أريد أن أجوز معهم إلَّا قريباً، فلمَّا خرج أميَّة أخذ لا ينزل منزلاً إلَّا عقلَ بعيره، فلم يزل بذلك حتَّى قتلَه الله ╡ ببدر.
          وإنما سيق ما في «المغازي» لأنَّه كالشَّرح لما هاهنا.
          وقد أغرب الكرماني حيث شرحَ على أنَّ المراد بقول سعد بن معاذ: لأميَّة بن خلف أنَّه قاتلك؛ أي: أبو جهل قاتلك، ثمَّ استشكل ذلك بكون أبي جهل على دين أميَّة فكيف هو قاتله.
          ثم أجاب بأنَّه كان السَّبب في خروجه وقتلهِ، فنسب قتله إليه إذ القتل، كما يكون مباشرة قد يكون تسبباً. وهو فهمٌ عجيبٌ، فإنَّما أراد سعدٌ أن النَّبي صلعم يقتل أميَّة، وسيأتي التَّصريح بذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث إنَّه صلعم أخبر بقتلِ أميَّة بن خلف فقُتِلَ في وقعةِ بدرٍ قتله رجل من الأنصار من بني مازن. وقال هشام: قتله معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب بن أساف اشتركوا فيه.
          وقد أخرج البخاري هذا الحديث في أول «المغازي» في باب: «ذكر النبي صلعم من يقتل ببدر» [خ¦3950].