نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث جابر: أن أباه توفي وعليه دين فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم

          3580- (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ) هو: الفضل بن دُكين، قال: (أَخْبَرَنَا زَكَرِيَّا) هو: ابنُ أبي زائدة قال: (أَخْبَرَنَا عَامِرٌ) هو: الشَّعبي، قال: (أَخْبَرَنَا جَابِرٌ) أي: ابن عبد الله الأنصاري ☻ (أَنَّ أَبَاهُ) هو: عبدُ الله بن عَمرو بن حرام، بمهملتين (تُوُفِّي) على البناء للمفعول (وَعَلَيْهِ دَيْنٌ) وفي رواية مغيرة عن الشَّعبي في «البيوع» [خ¦2127]: ((توفي عبدُ الله بن عَمرو بن حرام وعليه دينٌ)). وفي رواية فراس عن الشَّعبي في «الوصايا» [خ¦2781]: ((أنَّ أباه استشهدَ يوم أحدٍ وتركَ ستَّ بناتٍ وتركَ عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود، فاستنظره جابرٌ فأبى أن ينظرَه فكلَّم جابر رسولَ الله صلعم ليشفعَ له، فكلَّم اليهودي ليأخذَ ثمر نخله بالَّذي له فأبى)). وفي رواية ابنِ كعب بن مالك عن جابر في «الاستقراض» [خ¦2395] والهبة [خ¦2601]: ((أنَّ أباه قُتل يوم أُحد شهيداً وعليه دين، فاشتدَّ الغرماء في حقوقهم، فأتيتُ النَّبي صلعم فكلمته، فسألهم أن يُقبلوا ثمر حائطي ويحللوا أبي / فأبوا)).
          ووقع عند أحمد من طريق نُبيح العنزي عن جابر ☺ قال: قال لي: يا جابرُ لا عليك أن تكون في نظَّاري أهل المدينة حتَّى تعلمَ إلى ما يصير أمرنا. فذكر قصَّة قتل أبيه ودفنه، قال: وترك أبي عليه ديناً من التَّمر فاشتدَّ عليَّ بعضُ غرمائه في التقاضِي فأتيتُ النَّبي صلعم فذكرتُ له، وقلتُ: فأحبُّ أن تُعينني عليه لعلَّه ينظرني طائفة من تمرهِ إلى هذا الصِّرَام المُقْبل، فقال: نعم آتيك إن شاء الله تعالى قريباً من نصف النَّهار، فذكر الحديث في الضِّيافة، وفيه: ثمَّ قال: ((ادع فلاناً)) لغريمِي الَّذي اشتدَّ في الطَّلب فجاءَ، فقال: ((أَنْظِرْ جابراً طائفةً من دينك الَّذي على أبيهِ إلى الصِّرَام المقبل)) فقال: ما أنا بفاعل واعتلَّ، وقال: إنما هو مال يتامى.
          (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم ، فَقُلْتُ: إِنَّ أَبِي تَرَكَ عَلَيْهِ دَيْناً وَلَيْسَ عِنْدِي إِلاَّ مَا يُخْرِجُ نَخْلُهُ) من الإخراج؛ يعني: لم يترك مالاً إلَّا البستان المذكور (وَلاَ يَبْلُغُ مَا يُخْرِجُ نَخْلَهُ سنتين) أي: في مدَّة سنتين وهي تثنيةُ سنة، ويروى بصيغة الجمع (مَا عَلَيْهِ) أي: من الدين وهو مفعول ولا «يبلغ».
          (فَانْطَلِقْ مَعِي لِكَيْلاَ يُفْحِشَ) من الإفحاش (عَلَيَّ) بتشديد الياء (الْغُرَمَاءُ) بالرفع فاعل «يُفحش» (فَمَشَى) فيه حذف تقديره، فقال: نعم، فانطلقَ فوصل الحائط فمَشى وقد تبين من الرِّوايات الأُخر التَّصريح بما وقع من ذلك. ففي رواية مغيرة: ((فقال: اذهبْ فصنِّف تمرَك أصنافاً، ثمَّ أرسل إليَّ ففعلتُ، فجاءَ فجلس على أعلاه)). وفي رواية فراس في «البيوع» [خ¦2127]: ((اذهبْ فصنِّف تمرَك أصنافاً العجوة على حِدَة، وعَذْق زيدٍ على حِدَة))، وقوله: «عَذْق زيد»، هو _بفتح المهملة_ وزيد الذي يُنسب إليه اسم لشخص كأنَّه كان هو الَّذي ابتدأَ غرسَه فنُسِبَ إليه، والعجوةُ من أجودِ تمرِ المدينة.
          (حَوْلَ بَيْدَرٍ) بفتح الموحدة وسكون التحتية وفتح الدال المهملة، للتَّمر كالجرن للحَبِّ (مِنْ بَيَادِرِ التَّمْرِ فَدَعَا) وفي رواية ابن كعب بن مالك: ((فغدا علينا فطافَ في النَّخل ودعا في ثمرهِ / بالبركة)) [خ¦2395]. وفي رواية ابنِ حرملة عن جابر: ((فجاءَ هو وأبو بكرٍ وعمرٍ فاستقرَّ النَّخل يقوم تحت كلِّ نخلةٍ لا أدري ما يقول حتَّى مرَّ على آخرها)) الحديث أخرجه أحمد.
          (ثَمَّ آخَرَ) أي: مشى حول بيدرٍ آخر فدعا، وفي رواية فراس: ((فدخلَ النَّبي صلعم النَّخل فمشى فيها، فقال: أفرغوهُ))؛ أي: أفرغوه من البيدر. وفي روايةِ مغيرة: ((ثمَّ قال: كِلْ للقومِ فكلتُهم حتَّى أوفيتُهم)) [خ¦2127]. وفي رواية فراس: ((ثمَّ قال لجابر: فأوف الَّذي له فجذَّه بعد ما رجعَ النَّبي صلعم )).
          (ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْزِعُوهُ، فَأَوْفَاهُمُ الَّذِي لَهُمْ، وَبَقِيَ مِثْلُ مَا أَعْطَاهُمْ) وفي رواية مغيرة: ((وبقيَ تمرِي كأنَّه لم ينقصْ منه شيءٌ)) [خ¦2127]، وفي رواية ابن كعب: ((وبقيَ لنا من تمرها بقيَّة)). ووقع في رواية وهب بن كيسان: ((فأوفاهُ ثلاثين وسقاً وفضلت له سبعة عشر وسقاً)) [خ¦2396].
          ويجمعُ بالحملِ على تعدُّد الغرماء، فكأنَّ أصل الدين كان منه ليهودي ثلاثون وسقاً من صنفٍ واحدٍ فأوفاهُ وفضل من ذلك البيدر سبعة عشر وسقاً، وكان منه لغيرِ ذلك اليهودي أشياءَ أخر من أصناف أُخرى فأوفاهم وفضلَ من المجموع قدرَ الذي أوفاه. ويؤيِّده قوله في رواية نُبيح العَنَزي عن جابر ☺: ((فكلتُ لهم من العَجْوة فأوفاهُ الله وفضلَ من التَّمر كذا وكذا)). ووقع في رواية فراس عن الشَّعبي ما قد يُخالف ذلك ففيه: ((ثمَّ دعوتُ رسول الله صلعم فلمَّا نظروا إليه كأنَّما أُغروا بي تلك السَّاعة؛ أي: أنَّهم شددوا عليه في المطالبة لعداوتهم للنَّبي صلعم قال: فلمَّا رأى ما يصنعون طافَ حولَ أعظمها بيدراً ثلاث مرَّات، ثمَّ جلس عليه، ثمَّ قال: ادعهُمْ، فما زالَ يكيل لهم حتَّى أدَّى الله أمانةَ والدي، وأنا راضٍ أن يُؤدي بها الله، ولا أرجع إلى أخواتي بتمرةٍ فسلَّم الله البيادر كلَّها، حتى إنِّي لأنظر إلى البيدرِ الذي عليه / رسول الله صلعم كأنَّه لم ينقص منه تمرةً واحدةً)).
          ووجه المخالفة فيه أنَّ ظاهره أنَّ الكيل جميعَه كان بحضرةِ النَّبي صلعم وأنَّ التَّمر لم ينقصْ منه شيءٌ البتَّة، والذي مضى ظاهره أنَّ ذلك بعد رجوعهِ وأنَّ بعضَ التَّمر نقصَ.
          ويجمعُ بأنَّ ابتداء الكيلِ كان بحضرتهِ صلعم وبقيته كان بعد انصرافهِ، وكان بعضُ البيادر التي أوفى منها بعض أصحابِ الدَّين كان بحضرةِ رسول الله صلعم لم ينقصْ منه شيءٌ البتة، ولما انصرفَ بقيت آثار بركته فلذلك أوفى من أحدِ البيادر ثلاثين وسقاً وفضلتْ سبعة عشر.
          وفي رواية نُبيح ما يؤيِّد ذلك ففي روايته قال: ((كِلْ له فإنَّ الله سوف يُوفيه))، وفي حديثه: «فإذا الشَّمس قد دلكت فقال: الصَّلاة يا أبا بكر، فاندفعوا إلى المسجد، فقلت له _أي: للغريم_: قرِّب أوعيتَك»، وفيه: «فجئتُ أسعى إلى رسولِ الله صلعم كأنِّي شرارةٌ، فوجدتُه قد صلَّى فأخبرتُه، فقال أين عمر؟ فجاء يُهرول فقال: سل جابراً عن تمرهِ وغريمهِ، فقال: ما أنا بسائلهِ قد علمتَ أنَّ الله سيوفيه... الحديث».
          وقصَّة عمر ☺ قد وقعت في رواية ابن كعب ففيها: ((ثمَّ جئتُ رسولَ الله صلعم فقال لعمر ☺: اسمعْ يا عمر، قال: ألَّا يكون قد علمنا أنَّك رسول الله، والله إنَّك لرسول الله)) [خ¦2601]. وفي رواية وهب: ((فقال عمرُ ☺: لقد علمتُ حين مَشى فيها رسولُ الله صلعم ليباركنَّ الله فيها)) [خ¦2396].
          وقوله في رواية ابن كعب: ((ألَّا يكون)) بفتح الهمزة وتشديد اللام في الرِّوايات كلِّها وأصلها: «أن» الخفيفة ضمت إليها «لا» النَّافية؛ أي: هذا السُّؤال إنما يحتاجُ إليه من لا يعلم أنَّك رسولُ الله فيحتاجُ إلى الاستدلال، وأمَّا من علم أنَّك رسولُ الله فلا يحتاجُ إلى ذلك.
          وزعمَ بعضُ المتأخرين أنَّ الرِّواية فيه بتخفيف اللام، وأنَّ الهمزة للاستفهام التَّقريري، فأنكرَ عمر ☺ عدمَ علمهِ بالرِّسالة فأنتجَ إنكارهُ ثبوتَ علمه بها.
          وهو كلامٌ موجَّه إلَّا أنَّ / الرِّواية إنَّما هي بالتشديد، وكذلك ضبطَها القاضِي عياض وغيره، وقيل: النُّكتة في اختصاصِ عمر ☺ بإعلامهِ بذلك أنَّه كان معتنياً بقصَّة جابر ☺ مهتمًّا بشأنهِ مساعداً له على وفاءِ دين أبيه. وقيل: لأنَّه كان حاضراً مع النَّبي صلعم لما مَشى في النَّخل وتحقَّق أن التَّمر الذي فيه لا يفِي ببعض الدَّين، فأرادَ إعلامه بذلك لكونه شاهد أوَّل الأمر بخلاف من لم يشاهده.
          وقد وجدَ ذلك صريحاً في رواية أبي المتوكِّل عن جابر ☺ عند أبي نُعيم. فذكر الحديث، وفيه: فإذا رسول الله صلعم وعمر فقال: انطلقْ بنا حتَّى نطوفَ بنخلك هذا... فذكر الحديث. وفي رواية أبي نضرة عن جابر ☺: خذ من جابر وأخِّرْ عنه، فأبى، فكادَ عمر ☺ يبطشُ به، فقال النَّبي صلعم : ((مهْ يا عمرُ هو حقه، ثم قال: اذهبْ بنا إلى نخلكَ...)) الحديث. وفيه: فأتيتُ النَّبي صلعم فأخبرته، فقال: إيتني بعمر فأتيته، فقال: يا عمرُ سلْ جابراً عن نخلهِ... فذكر القصة.
          ووقع في رواية ابن حرملة: أنَّ أبا بكر وعمر ☻ جميعاً كانا مع النَّبي صلعم وقال في آخره: قال: فانطلقَ فأخبرَ أبا بكرٍ وعمر قال: فانطلقتُ فأخبرتهما... الحديث.
          ونحوه في رواية وهب بن كيسان عن جابر ☺، وجمعَ البيهقيُّ بين مختلف الرِّوايات في ذلك بأنَّ اليهودِيَّ المذكور كان له دين من تمرٍ، ولغيره من الغُرماء دُيون أخرى فلمَّا حضر الغرماء طالبوا بحقوقِهم وكالَ لهم جابر التَّمر، ففضلَ تمرُ الحائط كأنَّه لم ينقص منه شيء، فجاء اليهوديُّ بعدهم فطالبَ بدينه، فجذَّ له جابر ما بقيَ على النَّخلات فأوفاه حقَّه منه، وهو ثلاثون وسقاً وفضلت منه سبعة عشر، انتهى.
          وهذا الحديث يقتضِي أنَّه لم يفضل من الذي في البيادر شيءٌ، وقد صرَّح في الرِّواية المتقدِّمة أنها فضلت كلَّها كأنَّه لم ينقصْ منها شيءٌ، فما تقدَّم من الطَّريق الذي جُمِعَتْ به أولى، والله تعالى أعلم.
          وفي الحديث من الفوائد: / جواز الاستنظارِ في الدين الحال، وجوازُ تأخير الغريمِ لمصلحة المال الذي يُوفى منه. وفيه: مشي الإمام في حوائجِ رعيته وشفاعته عند بعضهم في بعض، وفيه: عَلم ظاهر من أعلام النبوة لتكثير القليل إلى أن حصل به وفاءُ الكثير وفضل منه.
          ومطابقة الحديث للترجمة من حيث حصول البركة الزَّائدة بمشيه صلعم حول البيادر حتى بلغَ ما أخرج نخلَه ما عليه وفضلَ مثل ذلك.
          وهذهِ من مُعجزاته الباهرة صلعم ، وقد مضى الحديث مطولاً ومختصراً في مواضع في «الاستقراض» [خ¦2395]، وفي «الجهاد» [خ¦2816]، وفي «الشروط» [خ¦2718]، وفي «البيوع» [خ¦2127]، وفي «الوصايا» [خ¦2781] ومرَّ الكلام في الجميع.