نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: حضرت الصلاة فقام من كان قريب الدار

          3575- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ) بضم الميم وكسر النون المروزي، أنَّه (سَمِعَ يَزِيدَ) من الزِّيادة، هو: ابنُ هارون بن زاذان أبو خالد الواسطي، قال: (أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ ☺) أنَّه (قَالَ: حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ مِنَ الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ وَبَقِيَ قَوْمٌ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلعم بِمِخْضَبٍ) بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الضاد المعجمة، المركن وهو إناءٌ من حجارة يغسلُ فيها، ويسمَّى: الإجانة أيضاً.
          (مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَوَضَعَ كَفَّهُ فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَضَمَّ أَصَابِعَهُ فَوَضَعَهَا فِي الْمِخْضَبِ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ جَمِيعاً. قُلْتُ: كَمْ كَانُوا، قَالَ: ثَمَانُونَ رَجُلاً) وهذا طريق رابعٌ من حديث أنس ☺:
          الأول: عن قتادة، والثاني: عن إسحاق، والثالث: عن الحسن، والرَّابع: عن حميد، وقد تقدَّم عنده في «الطَّهارة» من رواية ثابت [خ¦200] كلهم عن أنس ☺. وعند بعضِهم ما ليس عند بعضٍ ففيها مغايرةٌ واضحةٌ في المتن، وتعيين المكان وعدد من حضر، وغير ذلك يبعدُ الجمع بينهما، فالظَّاهر تعدد القصَّة. وسيأتي إن شاء الله تعالى في غير حديث أنس أنَّها كانت في مواطن أُخرى [خ¦3576] [خ¦3577] [خ¦3579].
          وقال القرطبيُّ: قصَّة نبع الماء من بين أصابعه صلعم تكرَّرت منه في عدَّة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردتْ من طُرق كثيرةٍ تُفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التَّواتر المعنوي، قال: ولم يُسمَع مثل هذه المعجزة عن غير نبينا صلعم حيث نبعَ الماء من بين عظمهِ وعصبهِ ولحمهِ ودمهِ.
          وقد نقل ابن عبد البر عن المزنيِّ أنَّه قال: نبع الماء من بين أصابعهِ صلعم أبلغ في المعجزةِ من نبع الماء من الحجرِ حيث ضربَ موسى ◙ / بالعصا، فتفجَّرت منه المياه؛ لأنَّ خروجَ الماء من الحجارةِ معهودٌ بخلافِ خروجِ الماء من بين اللَّحم والدَّم، انتهى.
          وقد تقدَّم الإشارة إليه أيضاً آنفاً [خ¦3575]، فظاهرُ كلام القرطبي والمزني أنَّ الماءَ نبع من نفس اللَّحم الكائنِ في الأصابع، ويؤيِّده قوله في حديث جابر ☺ الآتي [خ¦3576]: فرأيتُ الماء يخرجُ من بين أصابعهِ، ويحتمل أن يكون المراد كما تقدَّم أنَّ الماء كان ينبعُ من بين أصابعه بالنَّسبة إلى رؤية الرَّائي، وهو في نفس الأمر للبركة الحاصلة فيه يفورُ ويكثرُ وكفه صلعم في الماء، فيراهُ الرَّائي نابعاً من بين أصابعه، والأوَّل أبلغُ في المعجزة، وليس في الأخبار ما يردُّه فهو أولى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
          هذا وقد وقعَ عند أبي نُعيم في رواية عُبيد الله بن عمر عن ثابت عن أنس ☺: أنَّ النَّبي صلعم خرج إلى قباء فأُتِيَ من بعض بيوتهم بقدحٍ صغيرٍ، ووقع في حديث جابر ☺ الآتي التَّصريح بأنَّ ذلك كان في سفرٍ [خ¦3576]، ففي رواية نُبيح العَنزي عند أحمد عن جابر ☺ قال: سافرنَا مع رسولِ الله صلعم فحضرت الصَّلاة فقال رسول الله صلعم : ((ما في القومِ من طَهور؟)) فجاء رجل بفضلة في إداوة فصبَّه في قدح فتوضَّأ رسول الله صلعم ، ثمَّ إنَّ القوم أتوا ببقيَّة الطَّهور، فقالوا: تمسَّحوا تمسَّحوا فسمعَه رسول الله صلعم فقال: ((على رِسْلكم)) فضربَ يده في القدحِ في جوف الماء، ثمَّ قال: ((أسبغوا الطُّهور)). قال جابر ☺: فوالذي أذهبَ بصري لقد رأيتُ الماء يخرجُ من بين أصابعِ رسول الله صلعم حتى توضَّؤوا أجمعون، قال: حسبته قال: كنَّا مائتين وزيادة.
          وجاء عن جابر ☺ قصَّة أخرى أخرجها مسلم من وجه آخر عنه في أواخر الكتاب من حديث طويلٍ فيه: أنَّ الماء الذي أحضروه له هنا كان قطرةَ ماء غيرها، قال: فأخذه النَّبي صلعم فتكلَّم وغمزَ بيده، ثمَّ قال: ((ناد بجَفْنة الرَّكب)) فجيءَ بها، فقال بيده / في الجفنةِ فبسطها، ثمَّ فرَّق أصابعه، ثمَّ فارت الجَفنة ودارتْ حتى امتلأتْ فأتى النَّاس فاستقوا حتَّى رووا، فرفعَ يده من الجفنة وهي مَلأى.
          وهذه القصَّة أبلغ من جميع ما تقدَّم لاشتمالها على قلة الماء، وعلى كثرة من استقى منه.