نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت

          3610- (حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ) الحكم بن نافع، قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ) أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ ☺ / قَالَ: بَيْنَمَا) الكلام فيه قد مرَّ غير مرَّة (نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم وَهْوَ يَقْسِمُ قَسْماً) جملة حالية (أَتَاهُ) جواب «بينما» (ذُو الْخُوَيْصِرَةِ) بضم الخاء المعجمة وفتح الواو وسكون المثناة التحتية وكسر الصاد المهملة وبالراء التميمي، أصلُ الخوارجِ.
          وقد مرَّ وصفه في باب قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف:65] أنَّه غائر العينين محلوق كث اللِّحية [خ¦3344].
          وفي «تفسير الثعلبي»: بينا رسول الله صلعم يقسمُ غنائم هوازن جاءه ذو الخُويصرة التَّميمي أصل الخوارج فقال: اعدلْ. وقيل: هذا غير ذي الخويصرة اليماني الذي بالَ في المسجد.
          وقال ابن الأثير في كتاب «الأذواء»: ذو الخويصرة رجلٌ صحابي من تميمٍ، وهو الذي قال للنَّبي صلعم في قَسْم قسمه: اعدل. انتهى.
          ولما ذكره السُّهيلي عقَّبه بقوله: ويذكر عن الواقديِّ أنَّه حرقوص بن زهير الكعبي، من سعد تميم وكان لحرقوص هذا مشاهد كثيرة مشهورة محمودةٌ في حرب العراق مع الفرس أيَّام عمر ☺، ثم صار خارجياً.
          قال: وليس ذو الخويصرة هذا هو ذا الثُّدَيَّة الذي قتله عليٌّ ☺ بالنَّهروان ذاك اسمه: نافع، ذكره أبو داود. وقيل: المعروف أنَّ ذا الثُّدية اسمه: حرقوص وهو الذي حمل على عليٍّ ☺ ليقتله، فقتلَه علي ☺.
          (وَهْوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْدِلْ، قَالَ: وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ) روي بلفظ المتكلِّم وبالخطاب؛ أي: خبتَ أنت لكونك تابعاً ومقتدياً لمن لا يعدلُ، والفتح أشهرُ وأوجه.
          (إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ) وقد تقدَّم في قصَّة عاد من أحاديث «الأنبياء»، فقال خالد بن الوليد: ائذنْ لي في قتلهِ [خ¦3344]، ولا مانعَ أن يكون كلٌّ منهما استأذنَ في ذلك على أنَّه لم يقطع به، بل قال: احسبه.
          (فَقَالَ لَهُ: دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَاباً) فإن قيل: كيف يستقيمُ التَّعليل بذلك إذا استحقَّ القتل؟ / فالجواب: أنَّه ليس للتَّعليل بل لتعقيبِ الأخبار؛ أي: قال: دعْه، ثمَّ عقَّب مَقالته بقصَّتهم، وغاية ما في الباب أنَّ حُكمه حُكم المنافق، وكان رسول الله صلعم لا يقتلهم؛ لئلا يُقال: إن محمداً يقتلُ أصحابه.
          (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) التَّراقي جمع: تَرْقوة، وهي عظمٌ واصلٌ ما بين ثغرةِ النَّحر والعاتق، وفي رواية: <لا يجاوزُ حناجرهم>، وفيه تأويلان:
          أحدهما: أنَّه لا تفقهه قلوبُهم ويحملونَه على غيرِ المراد ولا ينتفعون بما يتلونَه منه.
          والثَّاني: أنَّه لا تصعد تلاوتهم في جملة الكلم الطَّيِّب إلى الله تعالى ولا ترتفع إلى مَعرض القبول.
          (يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ) من المروق، وهو الخروج، فإن كانَ المراد بالدِّين: الإسلام فهو حجَّة لمن يُكفِّر الخوارج، وإن كان المراد: الطَّاعة لا يكون فيه حجَّة، وإليه مالَ الخطَّابي.
          (كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) على وزن فعيلة بمعنى مفعولة، وهو الصَّيد المرمي، شبَّه مُرُوقهم من الدِّين بالسَّهم الذي يصيبُ الصَّيد فيدخلُ فيه ويخرجُ منه من شدَّة سرعةِ خروجه لقوَّة الرَّامي لا يعلق من جسد الصَّيد بشيءٍ، كما قال:
          (يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ) وهو حديدةُ السَّهم (فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ) بكسر الراء وبالصاد المهملة وبالفاء، وهو العصبُ الذي يُلوى فوقَ مدخل النَّصل، والرِّصاف جمع: رَصَفة، بالحركات.
          (فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ) بفتح النون وحكي ضمها وبكسر الضاد المعجمة وبتشديد الياء، وقد فسَّره بقوله: (وَهْوَ قِدْحُهُ) بكسر القاف وسكون الدال المهملة، وهو عودُ السَّهم قبل أن يُراش وينصل، وقيل: هو ما بين الرِّيش والنَّصل، قاله الخطَّابي.
          وقال ابنُ فارس: سُمِّي بذلك لأنَّه بُرِيَ حتى عاد نضواً؛ أي: هزيلاً، وحكى الجوهريُّ عن بعض أهل اللُّغة أن النَّضي النَّصل والأول أولى.
          (فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ) بضم القاف وبذالين معجمتين الأولى مفتوحة، جمع: قذة، وهي واحدةُ الرِّيش الذي على السَّهم، / يُقال لكلِّ واحدٍ من الرِّيش، ويقال: أشبَه به من القذة؛ لأنَّها تحذى على مثالٍ واحدٍ.
          (فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ) أي: قد سبق السَّهم بحيث لم يتعلَّق به شيءٌ من الفرثِ والدَّم، ولم يظهرْ أثرهما فيه، والفرثُ: السِّرجين ما دام في الكرش. ويقال: الفرثُ ما يجتمعُ في الكُرُوش ممَّا تأكله ذوات الكُروش. وقال القاضي: يعني: نفذ السَّهم الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق شيء منه به.
          (آيَتُهُمْ) أي: علامتهم (رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ) بفتح الموحدة؛ أي: مثل قطعة اللَّحم (تَدَرْدَرُ) بدالين ورائين مهملات؛ أي: تضطرب، تجيءُ وتذهبُ، وهو فعلٌ مضارعٌ من الدَّردرة، وهو صوتٌ إذا اندفعَ سُمِع له اختلاط.
          (وَيَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ) بضم الفاء؛ أي: على زمان فُرْقة؛ أي: افتراق (مِنَ النَّاسِ) وفي رواية الكُشميهني: <على خير فِرقة> بخاء معجمة وراء، وبكسر الفاء، وهي رواية الإسماعيلي أيضاً؛ أي: على أفضل طائفة، ويؤيِّده حديث مسلم من وجه آخر عن أبي سعيد ☺: ((تمرقُ مارقةٌ عند فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطَّائفتين بالحقِّ)) أخرجه هكذا مختصراً.
          وقال القاضي: هم عليٌّ ☺ وأصحابه، أو خير القرون، وهو الصَّدر الأول.
          (قَالَ أَبُو سَعِيدٍ ☺: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلعم ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ) على البناء للمفعول؛ أي: فطلب.
          (فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ النَّبِيِّ صلعم الَّذِي نَعَتَهُ) أي: على وصفه الذي وصفه، والفرق بين الصِّفة والنَّعت هو أن النَّعت ما كان لشيءٍ خاص كالعوج والعَمى والعور؛ لأنَّ ذلك يخصُّ موضعاً من الجسدِ والصِّفة ما لم يكن لشيءٍ خاصٍّ كالعظيم والكريم، فلذلك / قال أبو سعيد ☺ هنا: على نعت النَّبي صلعم .
          وقيل: النَّعت يكون بالحلية نحو الطَّويل والقصير، والصِّفة بالأفعال نحو ضاربٌ وخارجٌ فلذلك لا يقال: الله منعوتٌ بل يقال: موصوفٌ.
          ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرةٌ، وقد أخرجه البُخاري في «الأدب» [خ¦6163] وفي «استتابة المرتدين» [خ¦6931] وفي «فضائل القرآن» أيضاً [خ¦5058]، وأخرجه مسلم في «الزكاة»، والنَّسائي في «فضائل القرآن»، وفي «التفسير»، وابن ماجه في «السنة».