نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: حي على الطهور المبارك والبركة من الله

          3579- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) قال: (أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ) بضم الزاي وفتح الموحدة هو: محمد بن عبد الله بن الزُّبير الأسدي الكوفي، وقد مرَّ في «الصلاة» [خ¦820] قال: (أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ) هو: ابنُ يونس بن أبي إسحاق السَّبيعي (عَنْ مَنْصُورٍ) هو: ابنُ المعتمر (عَنْ إِبْرَاهِيمَ) هو: النَّخعي (عَنْ عَلْقَمَةَ) هو: ابنُ القيس (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ) هو: ابنُ مسعود ☺، أنَّه (قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الآيَاتِ) أي: الأمور الخارقة للعادات (بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفاً) قال الحافظُ العسقلاني: الذي يظهرُ أنَّ ابن مسعود ☺ أنكرَ عليهم عدَّ جميع الخوارق تخويفاً، وإلا فليس جميع الخوارق بركة، فإن التَّحقيق يقتضي عدَ بعضُها بركة من الله، كشبع الخلق الكثير من الطَّعام القليل، وبعضها تخويفاً من الله، ككسوف الشَّمس والقمر، كما قال صلعم : ((إنَّ الشَّمس والقمر آيتان من آياتِ الله يخوِّف بهما عباده)) [خ¦1048].
          وكان القوم الذي خاطبهم عبد الله بن مسعود ☺ بذلك / تمسَّكوا بظاهر قوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59].
          ووقع عند الإسماعيليِّ من طريق الوليد بن القاسم عن إسرائيل في أوَّل هذا الحديث سمع عبد الله بن مسعود بخسف فقال: كنا أصحاب محمد صلعم نعد الآيات بركة... الحديث.
          (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ) ويروى: <مع رسول الله> ( صلعم فِي سَفَرٍ) هذا السَّفر يشبه أن يكون غزوة الحديبية لثبوتِ نبعِ الماء فيها.
          وقد وقعَ مثل ذلك في تبوك، وقد جزمَ البيهقيُّ في «الدلائل» بالأوَّل لكن لم يخرجْ ما يُصرِّح به.
          وعند أبي نُعيم في «الدلائل» أنَّ ذلك كان في غزوة خيبر، فأخرجَ من طريق يحيى بن سلمة بن كُهيل عن أبيه عن إبراهيم في هذا الحديث قال: كنَّا مع رسولِ الله صلعم في غزوة خيبر، فأصابَ النَّاس عطشٌ شديدٌ، فقال: ((يا عبدَ الله التمسْ لي ماء)) فأتيتُه بفضل ماءٍ في إداوةٍ... الحديث.
          فهذا أولى ودلَّ على تكرُّر وقوع ذلك حضراً وسفراً.
          (فَقَلَّ الْمَاءُ، فَقَالَ: اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ فَجَاؤوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ) ووقع عند أبي نُعيم في «الدلائل» من طريق أبي الضُّحى عن ابن عبَّاس ☻ قال: دعا النَّبي صلعم بلالاً بماء فطلبه فلم يجدْه فأتاهُ بشنٍّ فيه ماء. الحديث، وفي آخره: فجعلَ ابنُ مسعودٍ يشربُ ويُكثر، وهذا يُشعر بأنَّ ابن عبَّاس ☻ عن ابنِ مسعود وأنَّ القصَّة واحدة.
          ويحتمل أن يكون كلٌّ من ابنِ مسعود وبلال أحضر الإداوة، فإنَّ الشَّن _بفتح المعجمة وبالنون_ هو الإداوةُ اليابسة.
          (فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ، ثُمَّ قَالَ: حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ) أي: هلموا إلى الطَّهور، وهو بفتح الطاء، والمراد به: الماء، ويجوزُ ضمها، والمراد به الفعل؛ أي: تطهروا (وَالْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ) «البركة» مبتدأ، و«من الله» خبره، وهو إشارة إلى أن الإيجاز من الله تعالى، ووقع في رواية عمَّار بن زُرَيق عن إبراهيم في هذا الحديث: فجعلتُ أبادرهم إلى الماء أدخله جوفي؛ لقوله: «البركة من الله».
          وفي حديث ابن عبَّاس ☻ : بسطَ كفَّه فيه فنبعت / تحت يدهِ عينٌ فجعلَ ابن مسعود يشربُ ويُكثر، والحكمةُ في طلبه صلعم في هذه المواطن فضلة الماء، والله أعلم أن لا يظنَّ أنَّه الموجد للماء، ويحتملُ أن تكون إشارة إلى أنَّ الله تعالى أجرى العادةَ في الدنيا غالباً بالتَّوالد، وأنَّ بعضَ الأشياءَ يقعُ فيها التَّوالد وبعضها لا يقع.
          ومن جملة ذلك ما يشاهَدُ من فوران بعض المائعاتِ إذا خُمِّرت وتركت زماناً ولم تجرِ العادة في الماء الصَّرف بذلك، فكانت المعجزة بذلك ظاهرة جدًّا.
          (قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهْوَ يُؤْكَلُ) أي: في حالة الأكل، وذلك في عهدِ رسول الله صلعم ، ووقع ذلك عند الإسماعيليِّ صريحاً أخرجَه عن الحسن بن سفيان عن بُنْدَار عن أبي أحمد الزُّبيري في هذا الحديث: كنَّا نأكلُ مع النَّبي صلعم الطَّعام ونحن نسمعُ تسبيحَ الطَّعام.
          وله شاهد أورده البيهقيُّ في «الدلائل» من طريق قيسِ بن أبي حازم قال: كان أبو الدَّرداء وسلمان ☻ إذا كتبَ أحدهما إلى الآخر قال له: بآية الصَّحفة وذلك أنَّهما بينا هما يأكلان في صحفةٍ إذ سبَّحت وما فيها.
          وذكر القاضِي عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: مرضَ النَّبي صلعم فأتاه جبريلُ بطبقٍ فيه عنب ورطبٌ يأكلُ منه فسبَّح.
          قال الحافظُ العسقلاني: وقد اشتهرَ تسبيحُ الحصى ففي حديث أبي ذرٍّ ☺ قال: تناولَ النَّبي صلعم سبعَ حصياتٍ فسبَّحن في يدِهِ حتَّى سمعتُ لهم حنيناً، ثمَّ وضعهنَّ في يد أبي بكرٍ ☺ فسبَّحنَ، ثم وضعهنَّ في يدِ عمر ☺ فسبحنَ، ثمَّ وضعهنَّ في يد عثمان ☺ فسبحنَ. أخرجه البزَّار والطَّبراني في «الأوسط». وفي رواية الطَّبراني: ((فسمعَ تسبيحهنَ من في الحلقة))، وفيه: ثمَّ دفعنَ إلينا فلم يُسبحن مع أحد منَّا.
          قال البيهقيُّ في «الدلائل»: كذا رواه صالح بن أبي الأخضر، ولم يكن بالحافظ عن الزُّهري / عن سويد بن يزيد السُّلمي عن أبي ذرٍّ، والمحفوظ ما رواه شعيبُ بن أبي حمزة عن الزُّهري قال: ذكر الوليد بن سويد أنَّ رجلاً من بني سُليم كان كبيرَ السِّنِّ ممَّن أدرك أبا ذرٍّ ☺ بالرَّبَذة ذكر له عن أبي ذرٍّ بهذا.
          فائدة: ذكر ابنُ الحاجب عن بعض الشِّيعة أنَّ انشقاقَ القمر وتسبيحَ الحصى وحنينَ الجذع وتسليمَ الغزالة ممَّا نقل آحاداً مع توفر الدَّواعي على نقله، ومع ذلك لم يُكذَّب رواتها.
          وأجاب بأنَّه استغنى عن نقلها تواتراً بالقرآن، وأجاب غيره بمنعِ نقلها آحاداً، وعلى تسليمه فمجموعها يفيدُ القطع، كما تقدَّم في أوَّل هذا الفصل [خ¦61/25-5429].
          قال الحافظُ العسقلاني: والذي أقول: إنَّها كلها مشتهرة عند النَّاس، وأمَّا من حيث الرِّواية فليست على حدٍّ سواء، فإنَّ حنين الجذعِ وانشقاقَ القمر نقلَ كل منهما نقلاً مستفيضاً يفيدُ القطع عند من يطَّلع على طُرق ذلك من أئمَّة الحديث دون غيرهم ممَّن لا ممارسة له في ذلك.
          وأمَّا تسبيحُ الحصى فليستْ له إلَّا هذه الطَّريقة (1) الواحدة مع ضعفها.
          وأمَّا تسليم الغزالة فلم أجدْ له إسناداً لا من وجه قوي، ولا من وجه ضعيفٍ، والله تعالى أعلم.


[1] في هامش الأصل: في نسخة: الطريق.