نجاح القاري لصحيح البخاري

باب علامات النبوة في الإسلام

          ░25▒ (بابُ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الإِسْلاَمِ) العلامات: جمعُ علامة، والمراد: المعجزات الدَّالة على نبوَّة محمد صلعم الظَّاهرة في زمان الإسلام، وإنما لم يقلْ معجزات النُّبوة ليكون ما يُورده من ذلك أعم من المعجزة والكرامة فإنَّ العلامة أعمُّ منها ومن الكرامة.
          والفرق بينهما أنَّ المعجزةَ أخصُّ؛ لأنَّه يُشترط فيها أن يتحدَّى النَّبي صلعم من يكذبه بأن يقول: إنْ فعلت كذا أتصدَّقُ بأني صادقٌ؟ أو يقول من يتحدَّاه: لا أصدِّقك حتى تفعل كذا.
          ويشترطُ أن يكون المتحدَّى به ممَّا يَعجزُ عنه البشر في العادة المستمرَّة، وقد وقعَ النَّوعان للنَّبي صلعم في عدَّة مواطن، وسمّيت المعجزة لعجز من يقعُ عند ذلك عن معارضتهِ، والهاء فيها للمبالغة، أو هي صفة محذوف.
          وأشهرُ مُعجزات النَّبي صلعم القرآن؛ لأنَّه صلعم تحدَّى به العرب وهم أفصحُ الناس لساناً، وأشدُّهم اقتداراً على أساليبِ الكلام، بأن يأتوا بسورةٍ من مثله فعجزوا مع شدَّة عداوتهم له وصدِّهم عنه.
          حتَّى قال بعضُ العلماء: أقصرُ سورةٍ في القرآن: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فكل قرآن من سورة أخرى كان قدر {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] سواء كان آية أو أكثر وبعض آية، فهو داخلٌ فيما تحدَّاهم به.
          وعلى هذا فتصلُ مُعجزات القرآن من هذه الحيثيَّة إلى عددٍ كثيرٍ جدًّا، ووجوه إعجازِ القرآن من جهةِ حُسْن تأليفهِ والتئامِ كلماتهِ وفصاحتهِ وإيجازهِ في مقام الإيجاز، وبلاغة ظاهره جدًّا مع ما انضمَّ إلى ذلك من حُسن نظمه وغرابة أسلوبه مع كونه على خلافِ قواعد النَّظم والنَّثر.
          هذا إلى ما اشتملَ عليه من الأخبار بالمغيَّبات ممَّا وقع من أخبار الأممِ الماضية ممَّا كان لا يعلمه إلَّا أفراد من أهل الكتاب ولم يُعلَم أنَّ النَّبي صلعم اجتمعَ بأحدٍ منهم ولا أخذَ عنهم، وبما سيقعُ فوقع على وَفْقِ ما أخبرَ به في زمنهِ صلعم وبعدَه.
          هذا مع الهيبة التي تقعُ عند تلاوتهِ / والخشية التي تلحقُ سامعه وعدم دخولِ الملال والسَّآمة على قارئه وسامعه، مع تيسير حفظهِ لمتعلِّمه وتسهيلِ سردهِ لتاليهِ، ولا ينكر شيئاً من ذلك إلَّا جاهلٌ أو معاندٌ.
          ولهذا أطلقَ الأئمَّة أنَّ أعظم معجزات النَّبي صلعم القرآن، ومن أظهرَ معجزاتِ القرآن بقاؤه مع استمرارِ الإعجاز.
          وأشهرُ ذلك تحدِّيه اليهود أن يتمنَّوا الموت فلم يقعْ ممَّن سلفَ منهم ولا خلف من تصدَّى لذلك ولا أقدمَ، مع شدَّة عداوتهم لهذا الدِّين وحرصِهم على إفسادِهِ والصَّد عنه، فكان في ذلك أوضح معجزة.
          وأمَّا ما عدا القرآن من نبع الماء من بين أصابعه، وتكثير الطَّعام، وانشقاقِ القمر، ونطقِ الجماد فمنه ما وقع التَّحدي به، ومنه ما وقع دالاًّ على صدقه من غير سبق تحدٍّ، ومجموعُ ذلك يفيدُ القطع بأنَّه ظهرَ على يديه صلعم من خوارقِ العادات شيء كثير كما يقطعُ بوجود جود حاتم، وشجاعةِ عليٍّ ☺، وإن كانت أفراد ذلك ظنيَّة وردت موارد الآحاد مع أنَّ كثيراً من المعجزات النَّبوية قد اشتهر، ورواه العدد الكثير والجمُّ الغفير.
          وأفاد الكثير منه القطعَ عند أهل العلمِ بالآثار والعناية بالسِّير والأخبار وإن لم يصل عند غيرهم إلى هذه الرُّتبة لعدم عنايتهم بذلك.
          فلو ادَّعى مدَّعٍ أنَّ غالب هذه الوقائع مفيدة للقطع بطريق نظري لما كان مستبعَداً، وهو أنَّه لا مريةَ أنَّ رواة الأخبار في كلِّ طبقة قد حدَّثوا بهذه الأخبار في الجملةِ، ولا يحفظ عن أحدٍ من أصحابه، ولا من بعدهم مخالفة الرَّاوي فيما حكاه من ذلك، ولا الإنكارَ عليه فيما هنالك فيكون السَّاكت منهم كالنَّاطق؛ لأنَّ مجموعهم محفوظٌ من الإغضاءِ على الباطلِ(1) .
          وعلى تقدير أنَّ يوجدَ من بعضِهم إنكار أو طعن على بعض من روى شيئاً من ذلك، فإنما هو من جهةِ توقُّفٍ في صدق الرَّاوي، أو تهمتهِ بكذب، أو توقُّف في ضبطه، أو نسبتهِ إلى سوءِ الحفظ، أو جوازِ الغلط إذ لا يوجد أحدٌ منهم طعنَ في المروي، كما وجد منهم في غير هذا الفنِّ من الأحكام والآداب وحروف القرآن ونحو ذلك.
          وقد قرَّر القاضي عياض ما تقدَّم من وجود إفادة القطعِ / في بعضِ الأخبار عند بعض العلماء دون بعض تقريراً حسناً.
          ومثَّل ذلك بأنَّ الفقهاء من أصحابِ مالك قد تواتر عنهم النَّقل أنَّ مذهبه إجزاء النِّية من أوَّل رمضان خلافاً للشَّافعي في إيجابها في كلِّ ليلة، وكذا إيجاب مسحِ جميع الرَّأس في الوضوء خلافاً للشَّافعي في إجزاءِ بعضه.
          وأنَّ مذهبهمَا معاً إيجاب النِّيَّة في أوَّل الوضوء واشتراط الوليِّ في النِّكاح خلافاً لأبي حنيفةِ، وتجد العدد الكثير والجمِّ الغفير من الفقهاء من لا يعرفُ ذلك من خلافهم فضلاً عمَّن لم ينظرْ في الفقهِ وهو أمرٌ واضحٌ، والله تعالى أعلم.
          ثم قوله: «في الإسلام»؛ أي: من حين المبعث، وهلم جرًّا دون ما وقع منها قبل ذلك، وقد جَمَعَ ما وقع من ذلك قبل المبعث، بل قبل المولد الحاكمُ في «الإكليل»، وأبو سعيد النَّيسابوري في «شرف المصطفى»، وأبو نُعيم والبيهقي في «دلائل النبوة».
          وسيأتي منه في هذا الكتاب قصَّة زيدِ بن عَمرو بن نُفَيل في خروجهِ في ابتغاءِ الدِّين [خ¦3826]، ومَضى منه قصَّة ورقة بن نوفل [خ¦3] [خ¦3392] وسلمان الفارسي.
          ومن مشهورِ ذلك قصَّة بحيرا الرَّاهب وهي في «السيرة» لابن إسحاق، وروى أبو نُعيم في «الدلائل» من طريق شعيب بن شعيب؛ أي: ابن محمد بن عبد الله بن عَمرو بن العاص عن أبيه عن جدِّه قال: كان بمرِّ الظَّهران راهبٌ يُدعى عيصا... فذكر الحديث، وفيه: أنَّه أعلم عبد الله بن عبد المطَّلب ليلة ولد له النَّبي صلعم بأنَّه نبيُّ هذه الأمَّة، وذكر له أشياء من صفتهِ.
          وروى الطَّبراني من حديث معاوية بن أبي سفيان عن أبيه: أنَّ أميَّة بن أبي الصَّلت قال له: إنِّي أجدُ في الكتب صفة نبي يُبعث من بلادنا، وكنتُ أظنُّ أني هو، ثم ظهر لي أنَّه من بني عبد مناف قال: فنظرتُ فلم أجد فيهم من هو متَّصف بأخلاقه إلَّا عتبة بن ربيعة إلَّا أنَّه جاوز الأربعين ولم يوحَ إليه فعرفتُ أنه غيره.
          قال أبو سفيان: فلمَّا بعث محمد صلعم قلتُ لأميَّة عنه فقال: أما إنَّه حقٌّ فاتَّبعه، فقلت له: فأنت ما يمنعُك؟ قال: الحياءُ من نُسَيَّات ثقيفٍ إنِّي كنتُ أخبرهنَّ أني هو، ثمَّ أصير تبعاً لفتى من بني عبد مناف.
          وروى / ابنُ إسحاق من حديث سلمى بن سلامة بن وقشٍ، وأخرجه أحمدُ وصحَّحه ابن حبَّان من طريقه، قال: كان لنا جارٌ من اليهود بالمدينةِ فخرجَ علينا قبل البعثةِ بزمان، فذكر الحشرَ والجنَّة والنَّار فقلنا له: وما آية ذلك؟ قال: خروجُ نبيٌّ يبعث من هذه البلاد. وأشارَ إلى مكَّة، فقالوا: متى يقعُ ذلك؟ قال: فرمى بطرفهِ إليَّ وأنا أصغر القوم أن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال: فما ذهبت الأيَّام واللَّيالي حتَّى بعثَ الله نبيَّه صلعم وهو حيٌّ فآمنَّا به، وكفر هو بغياً وحسداً.
          وروى يعقوبُ بن سفيان بإسنادٍ حسنٍ عن عائشة ♦ قالت: كان يهوديٌّ قد سكنَ مكَّة فلمَّا كانت اللَّيلة التي ولد فيها النَّبي صلعم قال: يا معشرَ قريش هل ولدَ فيكم اللَّيلة مولود؟ قالوا: لا نعلم، قال: انظروا فإنَّه ولدَ في هذه اللَّيلة نبيُّ هذه الأمَّة بين كتفيهِ علامة لا يرضع ليلتين؛ لأنَّ عفريتاً من الجنِّ وضعَ يدَه في فمِهِ فانصرفوا، فسألوا فقيل لهم: قد ولدَ لعبد الله بن عبد المطَّلب غلامٌ فذهبَ اليهودي معهم إلى أمِّه فأخرجته لهم فلمَّا رأى اليهودي العلامة خرَّ مغشياً عليه، وقال: ذهبت النُّبوة من بني إسرائيل، يا معشرَ قريش أما والله ليسطُونَّ بكم سَطوة يخرج خبرها من المشرقِ والمغرب.
          وممَّا ظهر من علاماتِ نبوَّته عند مولدِهِ وبعده ما أخرج الطَّبراني عن عثمان بن أبي العاص الثَّقفي عن أمِّه: أنَّها حضرتْ آمنة أم النَّبي صلعم فلمَّا ضربها المخاض، قالت: فجعلت أنظر إلى النجوم تدلَّى حتى أقول ليقعنَ عليَّ، فلمَّا ولدت خرج منها نورٌ أضاءَ البيت والدَّار.
          وشاهده حديث العرباض بن سارية قال: سمعتُ رسول الله صلعم يقول: ((إني عند الله خاتم النَّبيين، وإنَّ آدم لمنجدلٌ في طينتهِ، وسأخبركُم عن ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى بي، ورؤيا أمِّي التي رأتْ، وكذلك أمَّهات النَّبيين يرين)) فإنَّ أمَّ رسول الله صلعم رأت حين وضعت نوراً أضاءتْ له قصور الشام. أخرجه أحمدُ وصحَّحه ابن حبَّان والحاكم.
          وفي حديث أبي أسامة عند أحمد نحوه، وأخرج ابنُ إسحاق / عن ثور بن يزيد عن خالدِ بن مَعدان عن أصحابِ رسول الله صلعم نحوه، وقال: ((أضاءتْ له بصرى من أرض الشام)).
          وروى ابن حبَّان والحاكم في قصَّة رَضاعه صلعم من طريق ابنِ إسحاق بإسناده إلى حليمة السَّعدية... الحديث بطوله.
          وفيه من العلاماتِ: كثرة اللَّبن في ثدييها، ووجود اللَّبن في شارفها بعد الهزالِ الشَّديد، وسرعة مشي حمارها، وكثرة اللَّبن في شياهها بعد ذلك، وخصب أرضهَا، وسرعةِ نشأته، وشق الملكين صدره، وهذا الأخير أخرجه مسلمٌ من حديث أنس ☺ أنَّ النَّبي صلعم أتاه جبريل وهو يلعبُ مع الغلمان، فأخذه فصرعَهُ فشقَّ عن قلبهِ، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظُّ الشَّيطان منك، ثمَّ غسلَه في طستٍ من ذهبٍ بماءِ زمزم، ثمَّ جمعَه فأعادَه مكانه... الحديث.
          وفي حديث مخزوم بن هانئ المخزومي عن أبيه قال: وكان قد أتتْ عليه خمسون ومائة سنة، قال: لمَّا كانت اللَّيلة التي ولد فيها رسولُ الله صلعم انكسرَ إيوان كسرى، وسقطتْ منه أربع عشر شُرفة، وخمدتْ نارُ فارس، ولم تخمدْ قبل ذلك بألف عام، وغاضتْ بحيرة ساوة، ورأى الموبذان إبلاً صعاباً تقودُ خيلاً عِراباً قد قطعتْ دجلة وانتشرتْ في بلادها، فلمَّا أصبحَ كسرى أفزعَه ما وقعَ فسألَ عن علماء أهل مملكتهِ عن ذلك فأرسلوا إلى سَطِيح... فذكر القصَّة بطولها.
          أخرجها ابن السَّكن وغيره في «معرفة الصحابة».


[1] في هامش الأصل: في نسخة: عن الباطل.