نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث أبي بكر في الهجرة

          3615- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ) أبو أحمد البخاري البِيْكندي، سكن بغداد، وهو من أفراده، وصغار شيوخه، وشيخه الآخر: محمد بن يوسف الفريابي أكبر من هذا، وأقدم سماعاً، وقد أكثر البخاري عنه (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَزِيدَ) من الزيادة؛ أي: ابن إبراهيم (أَبُو الْحَسَنِ الْحَرَّانِيُّ) بفتح المهملة وتشديد الراء وبالنون، يعرف بالوَرْتَنِّيْسي _بفتح الواو وسكون الراء وفتح المثناة الفوقية وتشديد النون المكسورة بعدها مثناة تحتية ساكنة ثم سين مهملة_ والورتنيس أحدُ أجداده، وهو أبو إبراهيم. وقال أبو أحمد الحاكم: اسمُ الورتنيس: إبراهيم.
          (أَخْبَرَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ) هو: أبو خيثمة الجُعفي (أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ) عَمرو بن عبد الله السَّبيعي (قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ ☺ يَقُولُ: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ) أي: الصِّدِّيق ☺ (إِلَى أَبِي) هو: عازبُ بن الحارث بن عدي الأوسي، من قدماء الأنصار (فِي مَنْزِلِهِ فَاشْتَرَى رَحْلاً مِنْهُ) وفي نسخة: <فاشترى منه رحلاً>، والرَّحْل _بفتح الراء وسكون المهملة_: هو للنَّاقة كالسَّرج للفرس، وقيل: الرحل أصغرُ من القتبِ، واشتراه بثلاثة عشر درهماً.
          (فَقَالَ لِعَازِبٍ: ابْعَثْ إِلَيَّ ابْنَكَ يَحْمِلْهُ) أي: الرحل (مَعِي قَالَ: فَحَمَلْتُهُ مَعَهُ، وَخَرَجَ أَبِي يَنْتَقِدُ ثَمَنَهُ) أي: يستوفيه (فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْنِي كَيْفَ صَنَعْتُمَا) وفي رواية إسرائيل الآتية في «فضل أبي بكر ☺» [خ¦3652]: أن عازباً امتنعَ من إرسال ابنه مع أبي بكرٍ حتى يحدِّثه أبو بكر بالحديث.
          وهي زيادة ثقةٍ مقبولةٍ لا تنافي هذه الرِّواية، بل يحمل قوله: فقال / له أبي؛ أي: من قبل أن أحملَه معه، أو أعاد عازب سؤال أبي بكر ☺ عن التَّحديث بعد أن شرطَه عليه أوَّلاً وأجابه إليه.
          (حِينَ سَرَيْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلعم قَالَ: نَعَمْ أَسْرَيْنَا) سرى وأسرى لغتان بمعنى: السَّير في اللَّيل، قال الله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] وقال: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4] يستعمل كلٌّ منها بمعنى الآخر.
          (لَيْلَتَنَا) أي: بعضها، وذلك حين خرجا من الغار، كما سيأتي بيانه في حديث عائشة ♦ في الهجرة إلى المدينة، وفيه: أنَّهما لبثا في الغارِ ثلاث ليالٍ ثم خرجا [خ¦3905] (وَمِنَ الْغَدِ) أي: بعض الغد، فيه تجوُّز؛ لأنَّ السُّرىَ إنما يكون باللَّيل، فهو كالعطف في قوله: علفتها تبناً وماء بارداً.
          (حَتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهِيرَةِ) أي: نصف النَّهار، وهو استواءُ حالة الشمس، وسُمِّي قائماً؛ لأن الظِّل لا يظهر حينئذٍ، فكأنَّه قائم واقف، وفي رواية إسرائيل: أسرينا ليلتنَا ويومنا حتى أظهرنا [خ¦3652] ؛ أي: دخلنا في وقت الظُّهر.
          (وَخَلاَ الطَّرِيقُ) هذا يدلُّ على أنَّه كان في زمن الحر (لاَ يَمُرُّ فِيهِ أَحَدٌ) بيان لمعنى خلو الطَّريق (فَرُفِعَتْ لَنَا) على البناء للمفعول؛ أي: ظهرتْ لأبصارنا (صَخْرَةٌ طَوِيلَةٌ لَهَا ظِلٌّ لَمْ تَأْتِ عَلَيْهَا) أي: على الصَّخرة، وفي رواية الكُشميهني: <لم يأتِ عليه> أي: على الظِّل (الشَّمْسُ فَنَزَلْنَا عِنْدَهُ وَسَوَّيْتُ لِلنَّبِيِّ صلعم مَكَاناً بِيَدِي يَنَامُ عَلَيْهِ وَبَسَطْتُ عَلَيْهِ فَرْوَةً) وهي الجلدُ الذي يلبس، وقيل: المرادُ بها: قطعة حشيشٍ يابسٍ مجتمعةٍ، ويقوِّي الأوَّل ما في رواية يوسف بن إسحاق: ففرشتُ له فروةً معي [خ¦3917]، وفي رواية خديج: فروةً كانت معي.
          (وَقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا أَنْفُضُ لَكَ مَا حَوْلَكَ) يعني: من الغبار ونحو ذلك حتى لا تثيره عليه الريح، وقيل: معنى النفضُ هنا الحراسة، يقال: نفضتُ المكان: إذا نظرتُ جميع ما فيه ويؤيِّده قوله في رواية إسرائيل: «ثم انطلقتُ أنظر ما حولي هل أرى من الطَّلب أحداً» [خ¦3652].
          والنَّفَضَة: قومٌ يبعثون في الأرض ينظرون هل بها / عدوٌّ، أو خوف، والمعنى: وأنا أحرسُك وأدفعُ عنك وأطوفُ هل أرى أحداً، أو شيئاً يحترز عنه.
          (فَنَامَ وَخَرَجْتُ أَنْفُضُ مَا حَوْلَهُ، فَإِذَا أَنَا بِرَاعٍ مُقْبِلٍ بِغَنَمِهِ إِلَى الصَّخْرَةِ يُرِيدُ مِنْهَا مِثْلَ الَّذِي أَرَدْنَا، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتَ يَا غُلاَمُ؟ فَقَالَ: لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ) شكٌّ من الراوي أي اللَّفظين قال، وكأن الشَّك من أحمد بن يزيد فإنَّ مسلماً أخرجه من طريق الحسن بن محمد بن أَعْين عن زهير، فقال فيه: لرجل من أهل المدينة، ولم يشك. ووقع في رواية خَديج: فسمَّى رجلاً من أهل مكة، ولم يشك.
          فإن قيل: كيف ذلك؟
          فالجواب: أنَّ المراد بالمدينة في رواية مسلم هو مكَّة ولم يردُ به المدينة النَّبوية؛ لأنَّها حينئذٍ لم تكن تسمَّى المدينة، وإنما كان يُقال لها: يثرب، وأيضاً ولم تجر العادة للرُّعاة أن يبعدوا في المراعِي هذه المسافة البعيدة. ووقع في رواية إسرائيل فقال: لرجل من قريش، سمَّاه: فعرفته [خ¦3652]، وهذا يؤيِّد هذا الوجه لأنَّ قريشاً لم يكونوا يسكنونَ المدينة النَّبوية إذ ذاك.
          (قُلْتُ: أَفِي غَنَمِكَ لَبَنٌ) بفتح اللام والموحدة، وحكى القاضي عياض أنَّ في رواية: <لُبَّن> بضم اللام وتشديد الموحدة، جمع لابن؛ أي: ذوات لبن (قَالَ: نَعَمُ، قُلْتُ: أَفَتَحْلُبُ، قَالَ: نَعَمْ) أي: أحلب وأرادَ بهذا الاستفهام أمعك إذنٌ من صاحب الغنم في الحلبِ لمن يمر بها على سبيل الضِّيافة.
          وبهذا يندفعُ إشكال من يقول: كيف استجازَ أبو بكر ☺ أخذ اللَّبن من الرَّاعي بغير إذن مالك الغنم، ويحتملُ أن يكون أبو بكر ☺ لمَّا عرفه عرف رضاه بذلك لصداقتهِ له، أو إذنهِ العام لذلك إذ من عادة العرب أنَّهم يأذنوه للرُّعاة إذا مرَّ بهم ضيفٌ أن يسقوه، وقيل: كان الغنمٌ لحربي لا أمان له، وقيل: كانوا مضطرين، فليتأمل.
          (قَالَ: فَأَخَذَ شَاةً، فَقُلْتُ: انْفُضِ الضَّرْعَ) أي: ثدي الشَّاة (مِنَ التُّرَابِ وَالشَّعَرِ وَالْقَذَى) بفتح القاف والذال المعجمة مقصوراً، هو الذي يقعُ في العين، يقال: قَذَتْ عينُه: / إذا وقع فيها القذى كأنَّه شبه ما يصير في الضَّرع من الأوساخ بالقَذى في العين. وفي رواية إسرائيل الآتية: وأمرته فاعتقل شاة [خ¦3652] ؛ أي: وضع رجلها بين فخذيهِ أو ساقيه؛ ليمنعها من الحركة.
          (قَالَ: فَرَأَيْتُ الْبَرَاءَ يَضْرِبُ إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى يَنْفُضُ، فَحَلَبَ فِي قَعْبٍ) هو: القدحُ من الخشب (كُثْبَةً) بضم الكاف وسكون المثلثة وفتح الموحدة؛ أي: قطعة من لبنٍ قدر ملءِ القدح، وقيل: قدرَ حلبةٍ خفيفة. وقال الهرويُّ والقزَّاز: كلُّ ما جمعته من طعامٍ، أو لبن، أو غيرهما فهي كثبة. قال الهروي: بعد أن يكون قليلاً، وفي نسخة:<كُثيبة> على التصغير.
          (مِنْ لَبَنٍ وَمَعِي إِدَاوَةٌ) بكسر الهمزة، وهي شيءٌ يعملُ من جلدٍ ليستصحبَهُ المسافر (حَمَلْتُهَا لِلنَّبِيِّ صلعم يَرْتَوِي) أي: يستقي (مِنْهَا يَشْرَبُ وَيَتَوَضَّأُ) بيان للارتواء (فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فَوَافَقْتُهُ حِينَ اسْتَيْقَظَ) أي: وافقَ إتياني وقتَ استيقاظهِ، ويروى: <حتَّى تأنَّيت به حتَّى استيقظ>.
          (فَصَبَبْتُ مِنَ الْمَاءِ عَلَى اللَّبَنِ حَتَّى بَرَدَ) بفتح الراء، وقال الجوهريُّ: بضمها (أَسْفَلُهُ، فَقُلْتُ: اشْرَبْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ) أي: طابت نفسي لكثرةِ ما شرب (ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْنِ لِلرَّحِيلِ) أي: قال النَّبي صلعم لأبي بكر ☺ ألم يأتِ وقت الارتحال (قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَارْتَحَلْنَا بَعْدَ مَا مَالَتِ الشَّمْشُ وَاتَّبَعَنَا سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ) بفتح العين، وسُراقة فاعله، وهو سراقةُ بن مالك بن جعشم المدلجي، أسلم بالجعرانة حين انصرفَ رسول الله صلعم من حنين والطَّائف، وقال له: كيف بك إذا ألبست سواري كسرى، ولما أتى عمر ☺ بسواريه ألبسه، وقال: ارفعْ يديك وقل: الله أكبر الحمد لله الذي سلبهما كسرى وألبسهمَا سُراقة.
          (فَقُلْتُ: أُتِينَا) بضم الهمزة على البناء للمفعول (يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، فَدَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلعم فَارْتَطَمَتْ بِهِ فَرَسُهُ) بالطاء المهملة؛ أي: غاضت قوائم فرسه في تلك الأرض الصُّلبة، يقال: ارتطمَ في الوحل؛ أي: دخلَ فيه واحتبسَ، ورطمت الشَّيء أدخلتُه فارتطمَ.
          (أُرَى) بضم الهمزة؛ أي: أظنُّ وهو لفظ زهير الراوي (فِي جَلَدٍ) بفتح الجيم واللام، وهو الصُّلب من الأرض المستوي / (مِنَ الأَرْضِ، شَكَّ زُهَيْرٌ) يعني: هل قال هذه اللَّفظة أم لا، وفي رواية مسلم: الشك من زهير.
          وفي رواية خَديج بن معاوية وهو أخو زهير: ونحن في أرضٍ شديدةٍ كأنها مجصَّصة، فإذا بوقعٍ من خلفي فالتفتُّ فإذا سُراقة، فبكى أبو بكرٍ ☺ فقال: أُتِينا يا رسول الله، قال: ((كلا، ثمَّ دعا بدعواتٍ...)) الحديث.
          (فَقَالَ) أي: سراقة للنَّبي صلعم ولأبي بكر ☺ (إِنِّي أُرَاكُمَا قَدْ دَعَوْتُمَا عَلَيَّ) وفي رواية مسلم: ((قد علمتُ أنَّكما قد دعوتما عليَّ)) (فَادْعُوَا لِي فَاللَّهُ لَكُمَا) مبتدأٌ وخبر؛ أي: فالله ناصرٌ لكما (أَنْ أَرُدَّ عَنْكُمَا الطَّلَبَ) أي: ادعوا لأن أردَّ عنكما الطَّلب فهو علَّة للدُّعاء، أو على أن أردَّ عنكما الطَّلب، ويروى بنصب لفظة الجلالة؛ أي: فأُشهد الله لأجلكمَا على أن أردَّ عنكما الطَّلب، ويروى بالجرِّ أيضاً بنزع الخافضِ؛ أي: فبالله؛ أي: فأقسم بالله لكما على الردِّ. وفي «شرح السنة»: أقسم بالله لكما على الرَّد، والطَّلب جمع: طالب.
          (فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ صلعم فَنَجَا) أي: من الارتطام (فَجَعَلَ) أي: سراقة (لاَ يَلْقَى أَحَداً إِلاَّ قَالَ: قَدْ كَفَيْتُكُمْ) ويروى: <كفيتم> (مَا هُنَا) يعني: ما هنا الذي تطلبونه، وفي رواية: <ما هاهنا> (فَلاَ يَلْقَى أَحَداً إِلاَّ رَدَّهُ) بيان لقوله: ما هنا (قَالَ: وَوَفَى لَنَا) أي: وفى سراقة بما وعدَه من ردِّ الطلب.
          وفي الحديث: معجزة لرسول الله صلعم ، وفضيلة أبي بكر ☺. وفيه: خدمة التَّابع للمتبوع، واستصحاب الركوة في السَّفر، وفضل التَّوكل على الله تعالى، وأن الرَّجل الجليل إذا نامَ يُدافَع عنه. وقال الخطَّابي: استدلَّ به بعض شيوخ السُّوء من المحدثين على الأخذ على الحديث؛ لأنَّ عازباً لم يحمل الرَّحل حتى يحدِّثه أبو بكر ☺ القصَّة. وليس هذا الاستدلال صحيحاً لأنَّ هؤلاء اتَّخذوا الحديث بضاعةً يبيعونَهَا ويأخذونَ عليها أجراً.
          وأمَّا ما التمسه أبو بكرٍ ☺ من تحميلِ الرَّحل فهو من باب المعروف، والعادة المقرَّرة أنَّ عادة التجَّار يحملون الأثقال إلى بيت المشتري ولو لم يكن ذلك لكان لا يمنعه أبو بكر ☺ / من إفادةِ القصَّة، والقدوة فيه قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21].
          ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إنَّ فيه معجزة لرسول الله صلعم .
          تتمة: قال البزَّار: لم يروِ هذا الحديث تامًّا عن أبي إسحاق إلَّا زهير وأخوه خَديج وإسرائيل، وروى شعبة منه قصَّة اللَّبن خاصة، انتهى.
          وقد رواه عن أبي إسحاق مطولاً أيضاً حفيده يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق وهو في «الهجرةِ إلى المدينة» [خ¦3917] لكنَّه لم يذكر منه قصَّة سُراقة، وزاد فيه قصة غيرها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.