نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه

          3612- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) قال: (أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ) القطَّان (عَنْ إِسْمَاعِيلَ) هو: ابنُ أبي خالد، أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنَا قَيْسٌ) أي: ابن أبي حازم العجلي (عَنْ خَبَّابِ) بفتح المعجمة وتشديد الموحدة الأولى (ابْنِ الأَرَتِّ) بفتح الهمزة والراء وتشديد المثناة الفوقيَّة، كان سادس ستَّة في الإسلام، ومات بالكوفة ☺.
          (قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلعم وَهْوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ) وهي نوعٌ من الثِّياب معروفٌ، وكذلك البرد (فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا) أي: ألا تطلبُ النُّصرة من الله لنا على الكفَّار، وهذا بيان لقولهم: «شكونا»، وكلمة «أَلا» في الموضعين للحثِّ والتَّحريض (أَلاَ تَدْعُو اللَّهَ لَنَا، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهِ فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ) بكسر الميم وسكون النون، وهو آلةُ نشر الخشب، ويُقال لها أيضاً: المئشار _بالهمزة_ وتبدَّل موضع النون، من أشرتُ الخشبة: إذا قطعتها.
          (فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، / وَمَا يَصُدُّهُ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ) أي: تحت لحمهِ، أو عند لحمهِ (مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ) بفتح اللام وبالنون الثقيلة، من التَّمام (هَذَا الأَمْرَ) أي: أمر الإسلام (حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ) قال الكرمانيُّ: صَنْعاء _بفتح المهملة وسكون النون وبالمد_: قاعدة اليمن ومدينته العظمى. وحَضْرَمَوت _بفتح المهملة وسكون المعجمة وفتح الراء والميم_: بلدة أيضاً باليمن، وجاز في مثله بناء الاسمين، وبناء الأول وإعراب الثاني.
          فإن قلت: لا مبالغة فيه لأنَّهما بلدان متقاربان. قلت: الغرض بيان انتفاءَ الخوف من الكفَّار عن المسلمين، ويحتمل أن يرادَ بها: صنعاء الرُّوم، أو صنعاء دمشق قريةٌ في جانبها الغربيِّ في ناحية الرَّبوة. قال الجوهريُّ: حضرموت: اسم قبيلة أيضاً، انتهى.
          وتعقَّبه العيني بأنَّ قوله: لأنهما بلدان متقاربان، ليس كذلك لأنَّ بين عدن وصنعاء ثلاث مراحل، وبين حضرموت والبحر أربعة أيَّام، وبينه وبين عدن مسافة بعيدة، فعلى هذا يكون بين صنعاء وحَضرموت أكثر من أربعة أيام، انتهى.
          وفيه أنَّه نفى المبالغة، وهي تقتضِي كمال التَّباعد فإنَّ التَّقارب والتَّباعد من الأمور النِّسبية.
          هذا وقال الحافظُ العسقلاني: يحتمل أن يريدَ صنعاء اليمن، وبينها وبين حضرموت من اليمن مسافةٌ بعيدة، ويحتمل أن يريدَ صنعاء الشَّام والمسافة بينهما أبعد بكثيرٍ، انتهى.
          وقال ياقوت في «المشترك»: صنعاء اليمن أعظمُ مدنها وأجلها تشبهُ دمشق في كثرةِ البساتين والمياه، وصنعاء: قريةٌ على باب دمشق من ناحية باب الفَراديس، واتصلت حيطانها بالعقبية، وهي محلَّة في ظاهر دمشق.
          هذا وأقول: إن الظَّاهر أنَّه إنما تتحقَّق المبالغة إذا أريدَ بصنعاء صنعاء دمشق فإنَّ المبالغة تقتضي كمال التَّباعد في ذلك، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.
          (لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللَّهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ) عطفٌ على اسم الجلالة، / ويحتملُ أن يعطفَ على المستثنى منه المقدَّر، والمعنيان متعاكسان (وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ) وحاصل المعنى: لا تستعجلوا، فإنَّ من كان قبلكم قاسوا ما ذكرنا فصبروا، وأخبرهُم الشَّارع بذلك ليُقوِّي صبرهُم على الأذى.
          ومطابقة الحديث للترجمة أظهرُ من أن تخفَى، وقد أخرجه البخاري في «الإكراهِ» [خ¦6943]، وفي «مبعث النَّبي صلعم » أيضاً [خ¦3852]، وأخرجه أبو داود في «الجهاد»، والنَّسائي في «العلم»، وفي «الزينة».