نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: بين يدي الساعة تقاتلون قومًا ينتعلون الشعر

          3592- (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ) قال: (أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ) بفتح الفوقانية وسكون المعجمة وكسر اللام / وبالموحدة، وقد مرَّ في «الجمعة» [خ¦923] (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم يَقُولُ: بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ تُقَاتِلُونَ قَوْماً يَنْتَعِلُونَ الشَّعَرَ وَتُقَاتِلُونَ قَوْماً كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ) على لفظ اسم المفعول، من الإطراق، وقد مرَّ معناه [خ¦3587].
          والحديث قد مضى في «كتاب الجهاد»، في باب: «قتال الترك» [خ¦2927]، وقد مضى الكلام فيه أيضاً.
          قال صاحب «التلويح»: وكان أوَّل خروج ذلك الجنس متغلِّباً في جمادى الأولى سنة سبع عشرة وستمائة فعاثوا في البلادِ وأظهروا في الأرضِ الفساد، وخرَّبوا أكثر البلاد حتى بغدادَ وربطوا خُيولهم في سَواري الجوامع، كما في الحديث، وعبروا الفرات وملكوا الشَّام في مدَّة يسيرةً وعزموا على خيولهم إلى مصر فخرجَ إليهم ملكها قُطز المظفر، فالتقوا بعين جالوت فكان له عليهم من النَّصر والظَّفر كما كان لطالوت، فانجلوا عن الشَّام منهزمين، ورأوا ما لم يشاهدوه وراحوا خاسرين صاغرين، والحمد لله رب العالمين.
          ثم إنهم في سنة ثمان وتسعين وستمائة مُلِّك عليهم رجلٌ يسمَّى: غازان زعم أنَّه من أهل الإيمان ملك جملة من بلاد الشام وعاثَ جيشه فيها عَيْثَ عُبّاد الأصنام، فخرجَ إليهم الملك الناصر محمد، فكسرهم كسراً ليس معه انجبار وتقلل جيش التَّتار وذهبَ مُعظمهم إلى النَّار وبئسَ القرار، انتهى كلام صاحب «التلويح».
          وتعقَّبه العيني بأنَّ هذا الذي ذكره ليس على الأصل والوجه؛ لأنَّ هؤلاء الذين ذكرهم ليس من خوز ولا كرمان، وإنما هؤلاء من أولاد جنكز خان، وكان ابتداء ملكه في سنة تسع وتسعين وخمسمائة ولم يزل في الترقي إلى أن صار يركب في ثمانمائة ألف مقاتل، وأفسد في البلاد، وكان قد استولى على سمرقند وبخارى وخوارزم التي كرسيها تبريز والري وهَمَدَان ولم يكن هو دخل بغداد، وإنما خرَّب بغداد، وقتل الخليفة هلاونُ بن طلوخان بن جنكز خان المذكور، وقُتِل الخليفة المستعصم بالله، وقُتل من أهلهِ / وقرابتهِ خلقٌ كثيرٌ وشغرَ منصبَ الخلافة بعده.
          وكان قتله في سنة ست وخمسين وستمائة، ثمَّ بعد ذلك توجَّه هلاون إلى حلب في سنة سبعٍ وخمسين وستمائة، ودخلها في أوائل سنة ثمان وخمسين وستمائة، وبقيَ السَّيف مبذولاً ودم الإسلام ممطولاً سبعة أيَّام ولياليها، وقتلوا من أهلها خلقاً كثيراً لا يُحصون، وسبوا من النِّساء والذَّراري زهاء مائة ألف.
          ثمَّ رحلَ هلاون من حلبَ ونزلَ على حمص وأرسل كثيعا بن نوين مع اثني عشر طومان، كل طومان عشرة آلاف إلى مصر ليأخذها، وكان صاحب مصر حينئذٍ الملك المظفَّر، فتجهَّز وخرج ومعه مقدار اثني عشر ألف نفس مُقاتلين في سبيل الله، فتلاقوا على عين جالوتَ، فنصرَه الله تعالى على القتال للتتار وهزمَهم بعون الله، ونصرَه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، وقتل كثيعا في المعركة، وقُتِل غالب من معه والذين هزموا قتلهم العرب في البرارِي والمفاوز.
          وقال صاحب «التوضيح» تابعاً لصاحب «التلويح»: إنَّ في سنة ثمان وتسعين وستمائة مُلِّك عليهم رجل يسمَّى غازان... إلى آخر ما ذكر عن قريب، وهذا ككلام صاحب «التلويح».
          وغازان هذا: بالغين والزاي المعجمتين ويسمَّى أيضاً: قازان، بالقاف موضع الغين واسمه: محمود، وتولَّى مملكة جنكز خان في العراقين وما والاهما بعدَ بيدوش طرخان بن هلاون، وكان قُتِل لسوءِ سيرتهِ في سنة ثلاث وسبعمائة.
          والملك الناصر محمد بن قلاون لم يجتمع بقازان ولا حصلتْ بينهما الملاقاة ولا وقع بينهما حرب، نعم خرج الملك النَّاصر لأجلِ حركة قازان في سنة سبعمائة، ثمَّ عاد لأجلِ الغلاء والشِّتاء المفرط والبرد الشَّديد الذي قتل غالب الغلمان والأتباع، ثم خرجَ في سنة ثنتين وسبعمائة لأجل حركةِ التتار وحصل القتال بينه وبين قطلوشاه من أكبر أمراء قازان فنصرَ الله تعالى النَّاصر، وانهزمَ التتار، وعادَ / عسكر المسلمين منصوراً.
          وقال الحافظُ العسقلاني: كان خروجُ جنكز خان بعد الستمائة فاستسعرت بهم الدنيا ناراً خصوصاً المشرق بأسرهِ حتى لم يبقَ بلد منه حتَّى دخلَه شرهم، ثمَّ كان خراب بغداد وقتل الخليفة المستعصم آخر خلفائهم على أيديهم في سنة ستٍّ وخمسين وستمائة، ثمَّ لم يزل بقاياهُم يخرجون إلى أن كان اللِّنك ومعناه: الأعرج، واسمه: تَمُر _بفتح المثناة وضم الميم وربما أشبعت_ وطرق الدِّيار الشَّامية وعاثَ فيها، وحرَّق دمشق حتى صارتْ خاويةً على عُرُوشها، ودخلَ الرُّوم والهند وما بين ذلك، وطالت مدَّته إلى أن أخذَه الله وتفرَّق بنوه في البلاد.
          وقد ظهرَ بجميع ذلك مصداق قوله صلعم : ((إنَّ بني قنطورا أوَّل من يسلب أمَّتي ملكهم)) وهو حديث أخرجه الطَّبراني من حديث معاوية ☺، والمراد ببَني قَنْطورا: التُّرك، وكأنَّه يريد بقوله: «أمَّتي»، أمَّة النَّسب يعني: العرب لا أمَّة الدَّعوة، والله تعالى أعلم.