نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: لا تقوم الساعة حتى يقتتل فتيان فيكون بينهما مقتلة عظيمة

          3609- (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المعروف بالمسنَدي، قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتَانِ، فَيَكُونَ بَيْنَهُمَا مَقْتَلَةٌ عَظِيمَةٌ دَعْوَاهُمَا وَاحِدَةٌ) المَقْتلة _بفتح الميم_ مصدرٌ ميميٌّ؛ أي: قتل عظيم، فإن كان المراد من الفئتين فئة علي وفئة معاوية ☻ ، كما زعموا فقد قُتِل بينهما. /
          حكى ابنُ الجوزي في «المنتظم» عن أبي الحسن بن البراء، قال: قُتل بصفِّين سبعون ألفاً خمسة وعشرون ألفاً من أهل العراق وخمسة وأربعون ألفاً من أهل الشَّام، فمن أصحابِ أمير المؤمنين علي ☺ خمسة وعشرون بدرياً، وكان المقام بصفِّين مائة يوم وعشرة أيَّام، وكانت فيه تسعون وقعة.
          وحُكي عن ابن سيف أنَّه قال: أقاموا بصفِّين تسعة، أو سبعة أشهرٍ، وكان القتالُ بينهم سبعين زحفاً. وقال الزُّهري: بلغني أنَّه كان يدفن في القبرِ الواحد خمسون رجلاً.
          (وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ) على البناء للمفعول؛ أي: حتى يخرجَ ويظهر، وليس المراد بالبعثِ: الإرسال المقارِن للنُّبوة، بل هو من قبيل قوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ} [مريم:83].
          (دَجَّالُونَ) جمع: دجَّال، واشتقاقه من الدَّجل، وهو التَّخليط والتَّمويه والتَّغطية، يقال: دجل الحقَّ؛ أي: غطَّاه بالباطل، وقد يُطلق على الكذبِ، فعلى هذا قوله: (كَذَّابُونُ) تأكيدٌ (قَرِيباً) نصب على الحال من النَّكرة الموصوفة، ووقع في رواية أحمد: ((قريب)) بالرفع على أنَّه صفة بعد صفة (مِنْ ثَلاَثِينَ) أي: نفساً (كُلُّهُمْ) أي: كلُّ واحد منهم (يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ) وقد أخرج مسلم من حديث جابر بن سَمُرة ☺ الجزم بالعددِ المذكور بلفظ: ((إنَّ بين يدي السَّاعة ثلاثين كذَّاباً دجَّالاً كلُّهم يزعم أنَّه نبيٌّ)).
          وعدَّ منهم عبدَ الله بن الزُّبير ثلاثة: وهم مسيلمة، والأسود العنسي، والمختار. رواه أبو يَعلى بإسنادٍ حسنٍ عنه بلفظ: ((لا تقومُ السَّاعة حتى يخرجَ ثلاثون كذَّاباً منهم مسيلمة، والعنسي، والمختار)).
          قال الحافظُ العسقلاني: وقد ظهرَ مصداقُ ذلك في آخر زمن النَّبي صلعم فخرجَ مُسيلمة باليمامة والأسود العنسي باليمن، ثمَّ خرج في خلافة أبي بكر ☺ طُليحة بن خويلد في بني أسد بن خُزيمة وسَجَاح التَّميمية في بني تميم، وفيها يقول شبيب بن ربعي وكان مؤدبها:
أَضْحَتْ نَبِيَّتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا                     وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَ
          وقُتِل الأسودُ قبل أن يموتَ النَّبي صلعم ، وقُتل مسيلمة في خلافة أبي بكرٍ ☺، وتاب طُليحة ومات على الإسلام / على الصَّحيح في خلافة عمر ☺، ونُقِل أنَّ سجاح أيضاً تابت.
          وأخبار هؤلاء مشهورةٌ عند الإخباريين، ثمَّ كان أوَّل من خرجَ منهم المختار بن أبي عُبيد الثَّقفي غلبَ على أهل الكوفة في أوَّل خلافة ابن الزُّبير، فأظهر محبَّة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين ☺، فتتبَّعهم فقتل كثيراً ممَّن باشرَ ذلك، أو أعانَ عليه فأحبَّه الناس، ثمَّ إنَّه زيَّن له الشَّيطان أنْ ادَّعى النُّبوَّة، وزعم أنَّ جبريل يأتيه.
          فروى أبو داود الطَّيالسي بإسنادٍ صحيحٍ عن رفاعة بن شداد قال: كنت أبطنَ شيءٍ بالمختارِ، فدخلت عليه يوماً فقال: دخلت وقد قام جبريلُ قبلُ من هذا الكرسي.
          وروى يعقوبُ بن سفيان بإسنادٍ حسنٍ عن الشَّعبي: أنَّ الأحنفَ بن قيس أتاهُ كتاب المختار يذكر أنَّه نبيٌّ.
          وروى أبو داود في «السنن» من طريق إبراهيم النَّخعي قال: قلت لعبيدة بن عمرو: أترى المختار منهم قال: أما إنَّه من الرؤوس. وقُتل المختارُ سنة بضع وستِّين.
          ومنهم الحارثُ الكذَّاب خرج في خلافة عبد الملك بن مروان فقُتل، وخرج في خلافة بني العبَّاس جماعة.
          وليس المراد بالحديث من ادَّعى النُّبوة مطلقاً، فإنَّهم لا يحصون كثرةً لكون غالبهم ينشأُ لهم ذلك عن جنون أو سوداء، وإنَّما المراد من قامتْ له شوكةٌ وبدتْ له شُبهة كمَن وُصِف، وقد أهلكَ الله تعالى من وقع له ذلك منهم وقطعَ آثارهم، وكذلك يفعل من بقي منهم.
          والدَّجَّال الأعظم خارج عن هذا العِدَاد إذ هو يدَّعي الألوهيَّة نعوذُ بالله من فتنةِ المسيح الدَّجال خذلَه الله تعالى.
          ثمَّ إنَّ هذا طريق آخر في حديث أبي هريرة ☺ [خ¦3608]، وفيه زيادة وهي قوله: «يكون بينهما مَقتلة عظيمةٌ»، وقوله: «ولا تقومُ السَّاعة حتَّى يبعث... إلى آخره».