نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصدقة

          3586- (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) قال: (أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) هو محمد بن أبي عدي، بل هو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي أبو عمرو البصري واسم أبي عدي: إبراهيم أيضاً (عَنْ شُعْبَةَ ح) تحويل من سند إلى آخر (وَحَدَّثَنَا) قد مر أن الأولى حذف الواو وبعد حاء التحويل (بِشْرُ) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (بْنُ خَالِدٍ) أبو محمد العسكري الفرائضي قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّد عَنْ شُعْبَةَ / عَنْ سُلَيْمَان) أي: ابن مهران الأعمش أنه قال: (سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ) شقيق بن سلمة (يُحَدِّثُ عَنْ حُذَيْفَةَ) أي: ابن اليمان العبسي ☺ صاحب سرِّ رسول الله صلعم .
          (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ☺ قَالَ: أَيُّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ النَّبِيِّ صلعم فِي الْفِتْنَةِ) وفي رواية يحيى القطَّان عن الأعمش في «الصَّلاة» [خ¦525]: ((كنَّا جلوساً عند عمر ☺ فقال: أيُّكم)) والمخاطب بذلك الصَّحابة ♥ . ففي رواية ربعِي عن حذيفة ☺ أنَّه قدم من عند عمر ☺ فقال: سألَ عمر أمس أصحابَ محمد صلعم : أيُّكم سمع قولَ رسول الله صلعم في الفتنةِ.
          والمراد بالفتنةِ ما يعرض الإنسان مع ما ذُكر من الشَّر، أو أن يأتي لأجل النَّاس بما لا يحلُّ له، أو يخلُّ بما يجبُ عليه.
          (فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنَا أَحْفَظُ كَمَا قَالَ) صلعم ، وفي رواية البخاري في «الزكاة» [خ¦1435]: ((أنا أحفظه كما قاله)) (قَالَ: هَاتِ) تقول: هاتِ يا رجل _بكسر التاء_؛ أي: أعطني، وللاثنين هاتيا: مثل آتيا، وللجمع: هاتوا، وللمرأة: هاتي، وللمرأتين: هاتيا، وللنِّساء: هاتين، مثل: عاطين. قال الخليل: أصل هات: آتٍ من آت يؤتي، فقلبت الألف هاء.
          (إِنَّكَ لَجَرِيءٌ) وفي «الزكاة»: ((إنَّك عليه لجريء)) فكيف وهو من الجراءة، وهو الإقدام على الشَّيء من غير تخوف.
          (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ) بالميل إليهنَّ، أو الجور عليهنَّ في القَسْمِ والإنفاق والإيثار حتَّى في أولادهنَّ، ومن جهة التَّفريط في الحقوق الواجبة لهنَّ (وَمَالِهِ) بالاشتغال به عن العبادة، أو بحبسهِ عن إخراج حقِّ الله تعالى (وَجَارِهِ) بالحسدِ والمفاخرةِ والمزاحمةِ في الحقوق وإهمال التَّعاهد، وزاد في «الصلاة» [خ¦525]: ((وولده)) والفتنة فيه بالميل الطَّبيعي إليه وإيثارهِ على كلِّ أحدٍ، بل على نفسه.
          (تُكَفِّرُهَا الصَّلاَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ) وزاد في «الصلاة»: ((والصَّوم)). قال بعضُ الشُّراح: يحتمل أن يكون كلُّ واحدٍ من الصَّلاة وما معها مكفِّرة للمذكورات كلِّها لا لكلِّ واحدٍ منها، وأن يكون من باب اللَّف / والنَّشر، بأن الصَّلاة مثلاً مكفِّرة للفتنة في الأهل والصَّوم في الولد... إلى آخره.
          واستشكلَ ابنُ أبي جمرة وقوع التَّكفير بالمذكورات للوقوعِ في المحرَّم، أو الإخلال بالواجب لأنَّ الطَّاعات لا تسقطُ ذلك فإن حمل على الوقوع في المكروهِ بالمستحبِّ لم يناسبْ إطلاق التَّكفير.
          والجواب: التزامُ الأوَّل وأنَّ الممتنع من تكفيرِ الحرام، والواجب ما كان كبيرة فهي التي فيها النِّزاع، وأما الصَّغائر فلا نزاعَ في أنها تكفَّر لقول الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:31].
          وقد مضى شيءٌ من البحث في كتاب «الصَّلاة» [خ¦525] [خ¦528]، ثم أسباب الفتنة غير منحصرة فيما ذكر من الأمثلة، وكذلك التَّكفير لا يختصُّ بالأربع المذكورات، بل كلُّ ما شغلَ صاحبه عن الله تعالى فهو فتنة له، وكذلكَ سائرُ العباداتِ والطَّاعات مكفِّرة، قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114].
          وتخصيصُ هذه الأربع دون سائر العباداتِ إشارة إلى تعظيمِ قدرها؛ لأنَّ غيرها من الحسناتِ ليس فيها صاحبة التَّكفير. وفيه أيضاً: تنبيه على ما عداها فإنَّ العبادات إمَّا بدنيَّة، أو ماليَّة، أو قوليَّة فذكرَ من عبادةِ الأفعال: الصَّلاة والصِّيام، ومن عبادةِ المال الصَّدقة، ومن عبادةِ الأقوالِ: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ثمَّ إنَّ التَّكفير يحتمل أن يقعَ بنفس فعلِ الحسنات المذكورة.
          ويحتملُ أن تقعَ بالموازنةِ والأوَّل أظهرُ، والله تعالى أعلم.
          وقال ابنُ أبي جمرة: خصَّ الرجل بالذِّكر لأنَّه في الغالب صاحب الحكم في دار أهلهِ وإلَّا فالنِّساء شقائقُ الرِّجال في الحكم.
          (قَالَ: لَيْسَتْ هَذِهِ) أي: ليست الفتنة التي أُريدها هذه (وَلَكِنِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ) أي: ولكن أُريد الفتنة التي تموجُ كموج البحرِ صرَّح بذلك في الرِّواية التي في «الصَّلاة» [خ¦525]، ويحتملُ الرفع؛ أي: مرادِي الفتنة التي تموجُ كموج البحر؛ أي: تضطربُ اضطراب البحرِ عند هيجانه. وكُنِّي بذلك عن شدَّة المخاصمةِ وكثرةِ المنازعة، وما ينشأُ عن ذلك / من المشاتمةِ والمقاتلة (قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي: قال حذيفةُ ☺ لعمر ☺: يا أميرَ المؤمنين.
          (لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ مِنْهَا) أي: من هذه الفتنة التي تموج كموج البحر، وزاد في رواية ربعي: ((تعرض الفتنُ على القلوب فأيُّ قلبٍ أنكرها نُكتت فيه نُكتة بيضاء، وأيُّ قلبٍ أشربها نُكتت فيه نُكتة سوداءُ، حتى تصيرَ القلوبُ على قلبين أبيض في صفاء الزُّجاج لا تضره فتنة ما دامت السَّماوات والأرض، والآخر أسود كالكوزِ مُجَخَّياً لا يعرف معروفاً ولا يُنكر منكراً)).
          (إِنَّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَاباً مُغْلَقاً) أي: لا يخرج منها شيءٌ في حياتك. قال ابنُ المُنيِّر: آثر حذيفة ☺ الحرصَ على حفظ السرِّ، ولم يصرِّح لعمر ☺ بما سألَ عنه، وإنما كنى كناية، وكأنَّه كان مأذوناً له في ذلك.
          وقال النَّووي: يحتمل أن يكون حذيفة ☺ علم أنَّ عمر ☺ يُقتل، ولكنَّه كره أن يخاطبَه بالقتل؛ لأنَّ عمر ☺ كان يعلم أنَّه الباب فأتى بعبارة يحصل بها المقصود بغير تصريحٍ بالقتلِ، انتهى.
          إلَّا أنَّ في لفظ ربعي ما يعكِّر على ذلك كما سيجيء، وفي تمثيل الفتن بالدَّار وحياة عمر ☺ بالباب الذي لها غلق، وموته بفتح ذلك الباب إشارة إلى أنَّه ما دامتْ حياة عمر ☺ موجودةٌ وهي الباب المُغلق لا يخرج من داخل تلك الدَّار شيءٌ، فإذا ماتَ فقد انفتحَ ذلك الباب فخرج ما في تلك الدَّار.
          (قَالَ) أي: عمر ☺ (يُفْتَحُ ذَلِكَ الْبَابُ أَوْ يُكْسَرُ؟ قَالَ: لاَ، بَلْ يُكْسَرُ) أي: قال حذيفة ☺: لا يفتح بل يُكسر (قَالَ) أي: عمر ☺: (ذَلكَ أَحْرَى أَنْ لاَ يُغْلَقَ) وفي «الصِّيام»: ذلك أجدر أن لا يُغلق إلى يوم القيامة [خ¦1895].
          قال ابنُ بطَّال: إنما قال ذلك؛ لأنَّ العادة أنَّ الغلق إنما يقعُ في الصَّحيح، فأمَّا ما انكسرَ فلا يُتصوَّر غلقه حتى يُجبرَ، انتهى.
          ويحتمل أن يكون كنَّى عن الموت بالفتحِ، وعن القتلِ بالكسر، ولهذا قال في رواية ربعي: فقال عمر: كسراً لا أبا لك، وقد وقع في روايته أيضاً: وحدَّثته أن ذلك الباب رجل يُقتل، وقيل: إنما قال عمر ☺ ذلك اعتماداً على ما عندَه من النُّصوص الصَّريحة في وقوعِ الفتن في هذه الأمَّة ووقوعِ البأس بينهم إلى يوم القيامة. /
          وسيأتي في «الاعتصام» [خ¦7313] حديث جابر في قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65]، وقد وافقَ حذيفة على معنى روايته أبو ذرٍّ ☺، فروى الطَّبراني بإسناد رجاله ثقاتٌ: أنَّه لقيَ عمر ☺ فأخذ بيدهِ فغمزها، فقال له أبو ذر: أرسل يدي يا قفلَ الفتنة... الحديث. وفيه: أنَّ أبا ذرٍّ ☺ [قال]: لا يصيبكم فتنة ما دام فيكم. وأشار إلى عمر ☺.
          وروى البزَّار من حديث قُدامة بن مَظْعون عن أخيه عثمان ☺ أنَّه قال لعمر ☺: يا غلق الفتنة، فسأله عن ذلك فقال: مرَّ ونحن جلوسٌ مع النَّبي صلعم فقال: ((هذا غلقُ الفتنةِ لا يزال بينكم وبين الفتنة باب شديد الغَلْق ما عاش)).
          (قُلْنَا: عَلِمَ) أي: عمر ☺ (الْبَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ) وفي رواية جامع بن شدَّاد: فقلنا لمسروق: سلْه أكانَ عمر ☺ يعلمُ مَن الباب؟ فسأله، فقال: نعم. وفي رواية أحمد عن وكيع عن الأعمش فقال: مسروق لحذيفة ☺: يا أبا عبد الله كان عمر ☺ يعلم؟
          (كَمَا أَنَّ دُوْنَ غَدٍ اللَّيْلَة) أي: أنَّ ليلة غدٍ أقرب إلى اليوم من غدٍ (إِنِّي حَدَّثْتُهُ حَدِيثاً لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ) هو بقيَّة كلام حذيفة ☺، والأغاليط: جمع أُغْلوطة وهي ما يُغالط به؛ أي: حدَّثته حديثاً صدْقاً محقَّقاً من كلام النَّبي صلعم لا عن اجتهادٍ ولا رأي.
          وقال ابنُ بطَّال: إنما علم عمر ☺ أنَّه الباب؛ لأنَّه كان مع النَّبي صلعم على حراء، وأبو بكر وعثمان ♥ فرجفَ فقال صلعم : ((اثبتْ فإنما عليكَ نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدان))، أو فهم ذلك من قول حذيفة ☺ بل يكسر، انتهى.
          والذي يظهرُ أنَّ عمر ☺ علم الباب بالنَّص كما تقدَّم عن عثمان بن مَظعون وأبي ذرٍّ ☻ ، فلعلَّ حذيفة حضر ذلك.
          وقد تقدَّم في «بدء الخلق» حديث عمر ☺ أنَّه سمع خطبة النَّبي صلعم يحدِّث عن بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم [خ¦3192].
          وسيأتي في هذا الباب حديث حذيفة ☺ أنَّه قال: أنا أعلم النَّاس / بكلِّ فتنةٍ هي كائنةٌ فيما بيني وبين الساعة، وفيه: أنَّه سمع ذلك معه من النَّبي صلعم جماعة ماتوا قبله.
          فإن قيل: إذا كان عمر ☺ عارفاً بذلك فلم شكَّ فيه حتى سأل عنه؟
          فالجواب: أنَّ ذلك يقعُ مثله عند شدَّة الخوف، ولعلَّه خشيَ أن يكونَ نسيَ فسألَ من يذكِّره، وهذا هو المعتمد.
          (فَهِبْنَا) بكسر الهاء، على وزن: خفنا لفظاً ومعنى، وهذا من كلام أبي وائل؛ أي: فخفنا (أَنْ نَسْأَلَهُ) أي: حذيفة ☺، ودلَّ ذلك على حسنِ تأدُّبهم مع كبارهم (وَأَمَرْنَا مَسْرُوقاً) هو: ابنُ الأجدع من كبار التَّابعين، وكان من أخصِّ أصحاب ابنِ مسعود ☺ وحذيفة وغيرهما من كبار الصَّحابة ♥ .
          (فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: مَنِ الْبَابُ؟ قَالَ: عُمَرُ) فإن قيل: كيف تفسير الباب بأنَّه عمر بعد قوله: إنَّ بينك وبينها باباً مُغلقاً، والمخاطبُ هو عمر ☺ بعد قوله؟
          فالجواب: أنَّ في الأول تجوُّزاً، والمراد بين الفتنة وبين حياة عمر، أو بين نفس عمر وبين الفتنة بدنُه؛ لأنَّ البدن غير النفس.
          والحديث قد مرَّ في أوائل «كتاب مواقيت الصلاة»، في باب: «الصلاة كفارة» [خ¦525].
          ومطابقته للترجمة من حيث إنَّ فيه إخبار النَّبي صلعم عن الأمور الآتية قبل وقوعِهَا فوقعتْ على وفْق ما أخبرَ به وهي من علامات النُّبوة.