نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار

          3613- (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) المعروف بابن المديني، قال: (أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ) بفتح الهمزة وسكون الزاي (ابْنُ سَعْد) الباهلي السَّمان البصري، مات سنة ثلاث ومائتين، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ) هو: عبدُ الله بن عون بن أَرْطَبان، أبو عون المزني البصري، قال: (أَنْبَأَنِي) بالإفراد (مُوسَى بْنُ أَنَسٍ) أي: ابن مالك، قاضي البصرة، كذا رواه من طريق أزهر عن ابنِ عون، وأخرجه أبو عَوانة عن يحيى بن أبي طالب عن أزهر.
          وكذا أخرجه الإسماعيليُّ من رواية يحيى بن أبي طالب، ورواه عبدُ الله بن أحمد بن حنبل عن يحيى بن مَعين عن أزهر فقال: عن ابنِ عون عن ثمامة بن عبد الله بن أنس، بدل: «موسى بن أنس»، أخرجه أبو نُعيم عن الطَّبراني عنه وقال: لا أدري ممَّن الوهم.
          وقال الحافظ العسقلاني: لم أره في «مسند أحمد».
          وقد أخرجه الإسماعيليُّ من طريق ابن المبارك عن ابن عَون عن موسى بن أنس قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] الآية، قعد ثابت بن قيس في بيته الحديث، وهذا صورتُه مرسل إلَّا أنَّه يقوي أنَّ الحديث لابن عون عن موسى لا عن ثمامة.
          (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ☺: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم افْتَقَدَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ) أي: ابن شمَّاس بن زهير بن مالك بن امرئ القيس بن مالك، وهو الأغرُّ بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، وكان خطيبَ الأنصار، كما وقع في رواية مسلم من وجهٍ آخر عن أنسٍ ☺ وقال: كان ثابتُ بن شمَّاس خطيبَ الأنصار، ويُقال: إنَّه كان خطيب النَّبي صلعم . /
          (فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ) قيل: ذلك الرَّجل هو: سعدُ بن معاذ ☺ لما روى مسلم من طريق حمَّاد عن ثابت عن أنس ☺ فسأل النَّبي صلعم سعد بن معاذ، فقال: يا أبا عَمرو ما شأن ثابتٍ أشتكى؟ فقال سعدٌ: إنَّه لجاري وما علمتُ له بشكوى.
          واستشكلَ ذلك بعض الحفَّاظ بأنَّ نزول الآية المذكورة كان في سنة الوفود بسببِ الأقرعِ بن حابسٍ وغيره، وكان ذلك في سنة تسعٍ، كما سيأتي في «التَّفسير» إن شاء الله تعالى. وسعد بن معاذ ☺ مات قبل ذلك في بني قُريظة، وذلك سنة خمس، ويمكن الجمعُ بأنَّ الذي نزلَ في قصَّة الأقرع أوَّل السُّورة، وهو قوله تعالى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] والذي نزل في قصَّة ثابتٍ هو آية رفع الصَّوت. وقيل: الرَّجل المذكور هو سعدُ بن عبادة ☺ لما روى ابن المنذر في «تفسيره» من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس ☺ في هذه القصَّة فقال: سعد بن عبادة: يا رسول الله هو جاري... الحديث.
          قال الحافظُ العسقلاني: وهذا أشبه بالصَّواب؛ لأنَّ سعد بن عبادة من قبيلة ثابت بن قيس، فهو أشبَه أن يكون جاره من سعد بن معاذ لأنَّه من قبيلة أخرى.
          وقد روى الطَّبراني وابن مَردويه من طريق زيدِ بن الحباب: حدَّثني أبو ثابت بن قيس، عن ثابت بن قيس قال: لما نزلتْ هذه الآية، قعدَ ثابتٌ يبكِي فمرَّ به عاصم بن عدي فقال: ما يبكيك؟ قال: أتخوَّف أن تكون هذه الآية نزلت فيَّ فقال له رسول الله صلعم : ((أما ترضَى أن تعيشَ حميداً...)) الحديث.
          وهذا لا يغايرُ أن يكون الرَّسول إليه من النَّبي صلعم سعد بن معاذ ☺.
          ثمَّ قوله: أنا أعلمُ لك علمه، كذا في رواية الأكثرين. وقال الكرماني: كلمة «ألا» للتَّنبيه، أو الهمزة للاستفهام، وفي بعضها: <أنا أعلم>، انتهى.
          وكأنَّ النُّسخ التي عنده: <ألا أعلم> بدل: أنا أعلم، فلذلك قال كلمة: «ألا»، للتَّنبيه وتكون الهمزة في «ألا» للاستفهام، / ثم أشار إلى رواية الأكثرين وهي: أنا أعلم، بقوله: وفي بعضها: أنا أعلم.
          وقوله: ((لك)) أي: لأجلك، وقوله: «علمه»؛ أي: خبره.
          (فَأَتَاهُ) أي: فأتى الرجل المذكور ثابت بن قيس.
          (فَوَجَدَهُ جَالِساً فِي بَيْتِهِ مُنَكِّساً رَأْسَهُ) قوله: ((جالساً)) و((منكساً)) حالان مترادفان، أو متداخلان، «ورأسَه» منصوب بقوله: ((منكِّساً)).
          (فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟) أي: ما حالك (فَقَالَ: شَرٌّ) أي: فقال ثابت: حالي شرٌّ (كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صلعم ) فيه التفاتٌ، ومقتضى الظَّاهر أن يقول: كنتُ أرفع صوتي، ولكنَّه التفت من التَّكلم إلى الغيبة.
          (فَقَدْ حَبِطَ) أي: بطل (عَمَلُهُ) فيه التفاتٌ أيضاً، وكذا قوله: (وَهْوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَأَتَى الرَّجُلُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا) أي: فأتى الرَّجل المذكور النَّبي صلعم فأخبرهُ مثل ما قال ثابت أنَّه لما نزلت: {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] جلسَ في بيته، فقال: هو من أهل النَّار. وفي رواية مسلم: ((فقال ثابتٌ: أنزلتْ هذه الآية وقد علمتُم أنِّي من أرفعكُم صوتاً)).
          (قَالَ مُوسَى بْنُ أَنَسٍ) هو متَّصل بالإسناد المذكور إلى موسى، لكن ظاهره أنَّ باقي الحديث مرسلٌ، وقد أخرجه مسلم متَّصلاً بلفظ: «فذكر ذلك سعد للنَّبي صلعم فقال: بل هو من أهل الجنَّة».
          (فَرَجَعَ) من الرَّجع المتعدِّي، أو الرُّجوع اللَّازم فعلى الأول يرجعُ ضمير الفاعل إلى النَّبي صلعم ، وعلى الثاني يرجعُ إلى الرجل المذكور، فافهم (الْمَرَّةَ الأُخْرَى) ويروى: <الآخرة> (بِبِشَارَةٍ) بكسر الباء وحكي ضمها والكسر أشهر، وهي الخبرُ السَّار، سُمِّي بذلك لأنَّه يظهر طلاقة الإنسان وفرحهِ في بَشَرَتِهِ.
          (عَظِيمَةٍ، فَقَالَ) أي: النَّبي صلعم للرَّجل المذكور (اذْهَبْ إِلَيْهِ) أي: إلى ثابت (فَقُلْ لَهُ: إِنَّكَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَكِنْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ) قال الإسماعيليُّ: إنما يتمُّ الغرض بهذا الحديث؛ أي: من إيراده في باب «علامات النُّبوة» بالحديث الآخر؛ أي: الذي مضى في «كتاب الجهاد»، في باب «التَّحنط عند القتال» [خ¦2845]: فإنَّ فيه أنَّه قُتِل باليمامة شهيداً؛ يعني: وظهرَ بذلك مصداق قوله صلعم أنَّه من أهل الجنَّة لكونه استشهد.
          وقال الحافظُ العسقلاني: ولعلَّ البخاري أشار / إلى ذلك إشارة لأنَّ مخرجَ الحديثين واحدٌ، ويحتملُ أن يكون البخاريُّ أشارَ إلى ما في بعض طُرق حديث نزول الآية المذكورة، وذلك فيما رواهُ ابن شهاب عن إسماعيل بن محمد بن ثابت قال: قال ثابتُ بن شمَّاس: يا رسول الله إني أخشى أن أكون قد هلكت قال: فما ذاك؟ قال: نهانا اللهُ أن نرفعَ صوتاً فوق صوتكَ وأنا جهير... الحديث. وفيه: فقال له صلعم : ((أما ترضَى أن تعيشَ سعيداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟)).
          وهذا مرسلٌ قويُّ الإسناد أخرجه ابنُ سعد عن معن بن عيسى عن مالك عنه، وأخرجه الدَّارقطني في «الغرائب» من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن مالك كذلك. ومن طريق سعيد بن كثير عن مالك فقال فيه: عن إسماعيل عن ثابت بن قيس، وهو مع ذلك مرسل؛ لأنَّ إسماعيل لم يلحق ثابتاً، وأخرجه ابن مردويه من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزُّهري فقال عن محمد بن ثابت بن قيس أنَّ ثابتاً... فذكر نحوه.
          وأخرجه ابنُ جرير من طريق عبد الرَّزَّاق عن مَعمر عن الزُّهري معضلاً ولم يذكر فوقه أحداً، وقال في آخره: فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مُسيلمة، وأصرحُ من ذلك ما رواه ابنُ سعد بإسنادٍ صحيحٍ أيضاً من مرسل عكرمة قال: لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} [الحجرات:2] الآيةَ قال ثابت بن قيس: كنتُ أرفع صوتي فأنا من أهل النَّار، فقعد في بيته، فذكر الحديث نحو حديث أنس ☺، وفي آخره: بل هو من أهل الجنَّة، فلمَّا كان يوم اليمامة انهزم المسلمون، فقال ثابت: أفٍّ لهؤلاء وما يصنعون، قال: ورجل قائم على ثلمةٍ فقتله وقُتل.
          وروى ابن أبي حاتم في «تفسيره» من طريق سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس ☺ في قصَّة ثابت بن قيس فقال في آخرها: قال أنس ☺: وكنَّا نراه يمشِي بين أظهرنا ونحن أعلم أنَّه من أهل الجنة، فلمَّا كان يوم اليمامة كان في بعضنا بعض انكشافٍ، فأقبل وقد تكفَّنَ وتحنَّط فقاتل حتى قُتل.
          وروى ابن المنذر في «تفسيره» من طريق / عطاء الخُراساني قال: حدَّثتني بنت ثابت بن قيس قال: لما أنزل الله هذه الآية دخل ثابتٌ بيته فأغلقَ بابه، فذكر القصة مطولة. وفيها قول النَّبي صلعم : ((يعيشُ حميداً ويموت شهيداً)) وفيه: فلمَّا كان يوم اليمامة ثبتَ حتى قُتِل.
          فإن قيل: فيه زيادة العدد على المبشرين بالجنَّة.
          فالجواب: أنَّ التَّخصيص بالعدد لا يُنافي الزائد، أو المراد بالعشرةِ الذين بُشِّروا بها دفعةً واحدةً، أو بلفظ البشارةِ، وكيف لا والحسن والحسين ☻ وأزواج النَّبي صلعم ورضي عنهنَّ من أهل الجنَّة قطعاً، اللَّهمَّ اجعلنا من أهل الجنَّة وارزقني الدَّفن في جوار رسولك الكريم، اللَّهمَّ صلِّ وسلِّم عليه أفضل الصَّلاة وأكمل التَّسليم.
          ومطابقة الحديث للترجمة تُؤخذُ من قوله: ((لستَ من أهل النار، ولكن من أهل الجنة)) لأن هذا الأمر لا يطَّلع عليه إلا النَّبي صلعم ، وقد أخبر أنَّه يعيش حميداً ويموت شهيداً، وكان كذلك، والله تعالى أعلم.