إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث أنس: أن رسول الله غزا خيبر فصلينا عندها

          371- وبه قال: (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الدَّورقيُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ) بضمِّ العين المُهمَلة وفتح اللَّام وتشديد المُثنَّاة التَّحتيَّة مُصغَّرًا(1)، وللأَصيليِّ: ”حدَّثني ابن عُلَيَّة“ وأبوه اسمه إبراهيم بن سهمٍ البصريُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ) بضمِّ الصَّاد المُهمَلة، البنانيُّ البصريُّ الأعمى (عَنْ أَنَسٍ) وللأَصيليِّ: ”عن أنس بن مالكٍ“: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم غَزَا خَيْبَرَ) وهي(2) على ثمانية بُرْدٍ من المدينة، وكانت في جمادى الأولى سنة سبعٍ من الهجرة (فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا) خارجًا عنها (صَلَاةَ الغَدَاةِ) أي: الصُّبح (بِغَلَسٍ) بفتح الغين واللَّام: ظلمة آخر اللَّيل (فَرَكِبَ نَبِيُّ اللهِ صلعم ) على حمارٍ مخطومٍ برسن ليفٍ، وتحته أُكافٌ من ليفٍ، رواه البيهقيُّ والتِّرمذيُّ وضعَّفه (وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ) زيد بن سهل الأنصاريُّ، المُتوفَّى سنة اثنتين أو أربعٍ وثلاثين بالمدينة أو بالشَّام أو في البحر (وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ) جملةٌ اسميَّةٌ حاليَّةٌ، أي: قال أنسٌ: وأنا رديف أبي طلحة (فَأَجْرَى) من الإجراء (نَبِيُّ اللهِ صلعم )‼ مركوبه (فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ) بضمِّ الزَّاي وبالقافين، أي: سكَّة خيبر (وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللهِ صلعم ، ثُمَّ حَسَرَ الإِزَارَ عَنْ فَخِذِهِ) الشَّريف عند سوق مركوبه ليتمكَّن من ذلك (حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللهِ صلعم ) وللكُشْمِيْهَنِيِّ في الفرع(3): ”لأنظر“ بزيادة لام التَّأكيد، و«حَسَر» بفتح الحاء والسِّين المُهمَلتين كما في الفرع وغيره، أي: كشف الإزار، وصوَّب ابن حجرٍ هذا الضَّبط مستدلًّا بالتَّعليق السَّابق، وهو قوله: قال أنسٌ: «حسر النَّبيُّ صلعم »، وقال الزَّركشيُّ: «حُسِر» بضمِّ أوَّله مبنيًّا للمفعول، بدليل رواية مسلمٍ: «فانحسر» أي: بغير اختياره لضرورة الإجراء، وحينئذٍ(4) فلا دلالة فيه(5) على كون الفخذ ليس بعورةٍ، وتعقَّبه في «فتح الباري» بأنَّه لا يلزم من وقوعه كذلك في رواية مسلم ألَّا يقع عند البخاريِّ على خلافه، وأُجيب بأنَّ اللَّائق بحاله ╕ ألَّا يُنسَب إليه كشف فخذه قصدًا، مع ثبوت قوله ╕ : «الفخذ عورةٌ»، ولعلَّ أنسًا لمَّا رأى فخذه ╕ مكشوفًا، وكان ╕ سببًا في ذلك بالإجراء أسند الفعل إليه، وقد مرَّ قول المؤلِّف: وحديث أنسٍ أسند، وحديث جرهدٍ أحوط، فافهم.
           (فَلَمَّا دَخَلَ) ╕ (القَرْيَةَ) أي: خيبر، وهو يشعر بأنَّ الزُّقاق كان خارج القرية (قَالَ: اللهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ) أي: صارت خرابًا، قاله صلعم على سبيل الإخبار، فيكون من الإنباء بالمغيبات، أو على جهة(6) الدُّعاء عليهم، أي: التَّفاؤل لمَّا رآهم خرجوا بمسَاحيهم ومَكاتلهم الَّتي هي من آلات الهدم (إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ المُنْذَرِينَ) بفتح الذَّال(7) المُعجمَة (قَالَهَا) ╕ (ثَلَاثًا، قَالَ) أنسٌ: (وَخَرَجَ القَوْمُ إِلَى) مواضع (أَعْمَالِهِمْ) كذا قدَّره البرماويُّ كالكِرمانيِّ، لكن قال العينيُّ: بل معناه: خرج القوم لأعمالهم الَّتي كانوا يعملونها(8)، وكلمة «إِلَى» بمعنى: اللَّام (فَقَالُوا): هذا (مُحَمَّدٌ) أو جاء محمَّدٌ (قَالَ عَبْدُ العَزِيزِ) بن صُهَيْبٍ الرَّاوي: (وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) هو محمَّد بن سيرين كما عند المؤلِّف من طريقه، أو ثابتٌ البنانيُّ كما أخرجه مسلمٌ من طريقه، أو غيرهما: (وَالخَمِيسُ) بالرَّفع عطفًا على «محمَّدٌ»، أو بالنَّصب على أنَّ الواو بمعنى: «مع»، قال عبد العزيز أو من دونه: (يَعْنِي: الجَيْشَ) وأشار بهذا إلى أنَّه لم يسمع: «والخميس» من أنسٍ، بل من / بعض(9) أصحابه عنه، والحاصل أنَّ عبد العزيز قال: سمعت من أنس: قالوا: جاء محمَّدٌ فقط، وقال بعض أصحابه: قالوا: محمَّدٌ والخميس، والتَّفسير مُدرَجٌ، وسُمِّي بالخميس لأنَّه خمسة أقسامٍ: مقدِّمةٌ وساقةٌ وقلبٌ وجناحان (قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا) أي: خيبر (عَنْوَةً) بفتح العين وسكون النُّون، أي: قهرًا في عنفٍ، أو صلحًا في رفقٍ، ضِدٌّ، ومن ثمَّ اختُلِف هل كانت صلحًا أو عنوةً أو إجلاءً، وصحَّح المنذريُّ: أنَّ بعضها أُخِذ(10) صلحًا، وبعضَها عنوةً، وبعضَها إجلاءً، وبهذا يندفع التَّضادُّ(11) بين الآثار (فَجُمِعَ السَّبْيُ) بضمِّ الجيم مبنيًّا للمفعول (فَجَاءَ دِحْيَةُ) بكسر الدَّال وفتحها، ولابن عساكر: ”دحية الكلبيُّ“ (فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ. قَالَ) ╕ ، ولأبوي ذَرٍّ والوقت: ”فقال“: (اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً) منه، فذهب (فَأَخَذَ صَفِيَّةَ) بفتح الصَّاد المُهمَلة، قِيلَ: وكان اسمها زينب‼ (بِنْتَ حُيَيٍّ) بضمِّ الحاء المُهمَلة(12) وكسرها وفتح المُثنَّاة الأولى مُخفَّفَةً وتشديد الثَّانية، ابن أخطب من بنات هارون ◙ ، المُتوفَّاة سنة ستٍّ وثلاثين، أو ستٍّ وخمسين، وكانت تحت كنانة بن أبي الحقيق، قُتِل عنها بخيبر، وإنَّما أذن صلعم لدحية في أخذ الجارية قبل القسمة لأنَّ له ╕ صفيَّ المغنم يعطيه لَمن يشاء، أو تنفيلًا له من أصل الغنيمة(13)، أو من خمس الخمس بعدأن تميَّز، أو قبل على أن يحسب منه إذا تميَّز، أو أذن(14) له في أخذها لتُقوَّم عليه بعد ذلك وتُحسَب من سهمه (فَجَاءَ رَجُلٌ) لم أعرف اسمه (إِلَى النَّبِيِّ صلعم ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ) بضمِّ القاف وفتح الرَّاء والظَّاء المُعجَمة (وَالنَّضِيرِ) بفتح النُّون وكسر الضَّاد المُعجمَة السَّاقطة: قبيلتان من يهود خيبر (لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ) لأنَّها من بيت النُّبوَّة من ولد هارون ◙ ، والرِّياسة لأنَّها من بيت سيِّد(15) قريظة والنَّضير، مع الجمال العظيم، والنَّبيُّ صلعم أكمل الخَلْق في هذه الأوصاف، بل في سائر الأخلاق الحميدة (قَالَ) ╕ : (ادْعُوهُ) أي: دحية (بِهَا) أي: بصفيَّة، فدعَوه (فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صلعم قَالَ) له: (خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا) وارتجعها منه لأنَّه إنَّما كان أذن له في جاريةٍ من حشو السَّبي لا من أفضلهنَّ، فلمَّا رآه أخذ أَنْفَسَهُنَّ نسبًا وشرفًا وجمالًا استرجعها لئلَّا يتميَّز دحية بها على سائر الجيش، مع أنَّ فيهم مَن هو(16) أفضل منه، وأيضًا: لِمَا فيه من انتهاكها(17) مع علوِّ مرتبتها، وربَّما ترتَّب على ذلك شقاقٌ أو غيره ممَّا لا يخفى، فكان(18) اصطفاؤه لها قاطعًا لهذه المفاسد، وفي «فتح الباري» نقلًا عن الشَّافعيِّ في «الأُمِّ» عن «سيرة الواقديِّ»: أنَّه ╕ أعطى دحية أُخت كنانة بن الرَّبيع بن أبي الحقيق زوج صفيَّة، أي: تطييبًا(19) لخاطره، وفي «سيرة ابن سيِّد النَّاس»: أنَّه أعطاه ابنتي عمِّ صفيَّة (قَالَ: فَأَعْتَقَهَا) أي: صفيَّةَ (النَّبِيُّ صلعم وَتَزَوَّجَهَا، فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ) البنانيُّ: (يَا أَبَا حَمْزَةَ) بالحاء المُهملَة والزَّاي، كنية أنسٍ (مَا أَصْدَقَهَا) ╕ ؟ (قَالَ) أنسٌ: أصدقها (نَفْسَهَا، أَعْتَقَهَا) بلا عوضٍ (وَتَزَوَّجَهَا) بلا مهرٍ، أو أعتقها وشرط أن ينكحها، فلزمها الوفاء، أو جعل نفس العتق صَدَاقًا، وكلُّها من خصائصه(20)، وأخذ الإمام أحمد والحسن وابن المُسيَّب وغيرهم بظاهره فجوَّزوا ذلك لغيره أيضًا (حَتَّى إِذَا كَانَ) ╕ (بِالطَّرِيقِ) في سدِّ الرَّوحاء على نحو أربعين ميلًا من المدينة أو نحوها (جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ) بضمِّ السِّين، وهي أُمُّ أنسٍ (فَأَهْدَتْهَا) أي: زفَّتها (لَهُ) ╕ (مِنَ اللَّيْلِ) قال البرماويُّ كالكِرمانيِّ: وفي بعضها _أي: النُّسخ أو الرِّوايات_: ”فهدتها“ أي: بغير همزٍ، وصُوِّب(21) لقول الجوهريِّ: الهِدَاء مصدر هديتُ أنا المرأة إلى زوجها (فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ(22) صلعم عَرُوسًا) على وزن «فَعُول» يستوي فيه المُذكَّر والمُؤنَّث ما داما في إعراسهما، وجمعه: عُرُسٌ، وجمعها: عرائسُ (فَقَالَ) ╕ : (مَنْ كَانَ‼ عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَجِئْ بِهِ، وَبَسَطَ) بفتحات (نِطَعًا) بكسر النُّون وفتح الطَّاء المُهمَلة، وعليها اقتصر ثعلبٌ في «فصيحه»، وكذا في الفرع وغيره من الأصول، ويجوز: فتح النُّون وسكون الطَّاء، وفتحهما، وكسر النُّون وسكون الطَّاء، وقال الزَّركشيُّ: فيه سبع لغاتٍ، وجمعه / : أنطاعٌ ونطوعٌ (فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ، وَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالسَّمْنِ _ قَالَ) عبد العزيز بن صُهَيْبٍ: (وَأَحْسِبُهُ) أي: أنسًا (قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ) نعم في رواية عبد الوارث الجزم بذكر السَّويق (قَالَ: فَحَاسُوا) بمُهمَلتين، أي: خلطوا أو(23) اتَّخذوا (حَيْسًا) بفتح الحاء والسِّين المُهمَلتين، بينهما مُثنَّاةٌ تحتيَّةٌ ساكنةٌ، وهو الطَّعام المُتَّخَذ من التَّمر والأَقِط والسَّمن، وربَّما(24) عوَّض بالدَّقيق عن الأَقِط (فَكَانَتْ) بالفاء، وفي روايةٍ: ”وكانت(25)“ أي: الثَّلاثة المصنوعة حَيْسًا (وَلِيمَةَ رَسُولِ اللهِ صلعم ) أي: طعام عرسه، من الولم(26) وهو الجمع، سُمِّي به لاجتماع الزَّوجين. واستُنبِط منه(27): مشروعيَّة مطلوبيَّة الوليمة للعرس، وأنَّها بعد الدُّخول، وجوَّز النَّوويُّ كونها قبله أيضًا، وأنَّ السُّنَّة تحصل بغير اللَّحم، ومساعدة الأصحاب بطعامٍ من عندهم.
          ورواة هذا الحديث ما بين كوفيٍّ وبصريٍّ، وفيه التَّحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلِّف في «النِّكاح» [خ¦5085] و«المغازي» [خ¦4200]، وأبو داود في «الخراج»، والنَّسائيُّ في «النِّكاح» و«الوليمة»، والله الموفِّق(28).


[1] في (ص) و(م): «مُصغَّرٌ».
[2] «وهي»: مثبتٌ من (م).
[3] «في الفرع»: ليس في (م).
[4] «وحينئذٍ»: ليس في (د).
[5] «فيه»: ليس في (د) و(ص)، وفي (م): «له».
[6] في (د): «سبيل».
[7] «الذَّال»: ليس في (د).
[8] في (د): «لأنَّهم كانوا يعملون».
[9] «بعض»: ليس في (د).
[10] في (د) و(م): «كان»، وسقط من (ص).
[11] في (م): «القضاء».
[12] «المهملة»: ليس في (د).
[13] في (م): «القسمة».
[14] في (م): «ميَّز وأذن».
[15] في (ص) و(م) و(ج): «سيِّدة».
[16] «من هو»: ليس في (د).
[17] في (د): «ابتذالها».
[18] في غير (ب) و(س): «وكان».
[19] في (د): «تطمينًا».
[20] في (ص): «خصائصها».
[21] في غير (ص) و(م): «وصُوِّبت».
[22] في (د): «رسول الله».
[23] في (م): «و».
[24] في (م): «وإنَّما».
[25] في (ب) و(د) و(ص): «فكانوا»، وليس بصحيحٍ.
[26] في (م): «أَوْلَم».
[27] «منه»: ليس في (د).
[28] «والله الموفِّق»: مثبتٌ من (م).