نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده

          3618- (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) قال: (أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ) أي: ابن سعد / (عَنْ يُونُسَ) هو: ابنُ يزيد الأيلي (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهري، أنَّه (قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيَّبِ) وفي نسخة: <سعيد بن المسيب> (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺) أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم : إِذَا هَلَكَ كِسْرَى) بكسر الكاف ويجوز الفتح، وهو لقبُ كل من وَلِيَ مملكةَ الفرس. قال ابنُ الأعرابي: الكسر أفصحُ في كسرى، وكان أبو حاتم يختاره، وأنكر الزَّجَّاج الكسر على ثعلب، واحتجَّ بأن النِّسبة إليه كَسروي بالفتح، ورد عليه ابنُ فارس بأن النِّسبة قد يُفتح فيها ما هو في الأصل مكسور أو مضموم، كما قالوا في بني تغلِب _بكسر اللام_ تغلَبي _بفتحها_، وفي سَلِمة كذلك، فليس فيه حجَّة على تخطئةِ الكسر.
          (فَلاَ كِسْرَى بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ) وهو لقبٌ لكلِّ من ولي مملكة الروم (فَلاَ قَيْصَرَ بَعْدَه وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَتُنْفِقُنَّ كُنُوزَهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والمعنى: لا يبقى كسرى بالعراق، ولا قيصر بالشَّام، وهذا منقولٌ عن الشَّافعي، ولما فتحت العراق والشَّام في أيَّام عمر بن الخطَّاب ☺ أنفقت كنوزهما في سبيل الله مثل ما أخبرَ به النَّبي صلعم فكان من علاماتِ نبوَّته.
          هذا وسببُ ورودِ الحديث أنَّ قريشاً كانوا يأتونَ الشَّام والعراق تجاراً فلمَّا أسلموا خافوا انقطاعَ سفرهم إليها لدخولهم في الإسلام، فقال النَّبي صلعم لهم ذلك تطييباً لقلوبهم وتبشيراً لهم بأنَّ ملكهما سيزول عن الإقليمين المذكورين.
          وقيل: الحكمةُ في أنَّ قيصر بقي ملكه، وإنما ارتفعَ من الشَّام وما والاها، وكسرى ذهب ملكه أصلاً ورأساً أن قيصرَ لما جاءه كتاب النَّبي صلعم قَبَّلَه وكاد أن يُسلم، كما مضى بسط ذلك في أول الكتاب [خ¦7]، وكِسرى لما أتاه كتاب النَّبي صلعم مزَّقه فدعا النَّبي صلعم أن يمزِّق مُلكه كلَّ ممزَّق، فكان كذلك.
          قال الخطَّابي: معناه فلا قيصرَ / بعده يملك مثل ما ملكَ، وذلك أنَّه كان بالشَّام وبها بيت المقدس الذي لا يتم للنَّصارى نسك إلَّا به، ولا يملك على الروم أحدٌ إلَّا إن كان دخلَه إمَّا سرًّا وإمَّا جهراً، فانجلى عنها قيصر واستُفتِحت خزائنه ولم يَخْلفه أحدٌ من القياصرة في تلك البلاد بعده.
          ووقع في الرِّواية التي في باب: «الحرب خدعة»، من «كتاب الجهاد» [خ¦3027]: ((هلك كسرى، ثم لا يكون كسرى بعده وليهلكنَّ قيصر)).
          والحكمة فيه أنَّه إنما قال ذلك لما هلك كسرى بن هرمز، كما سيأتي في حديث أبي بكرة ☺ في «كتاب الأحكام» قال: بلغ النَّبي صلعم أن أهل فارس ملكوا عليهم امرأة... الحديث [خ¦4425].
          وكان ذلك لما مات شيرويه بن كسرى فآثروا عليه بنته بُوران، وأمَّا قيصر فعاش إلى زمن عمر بن الخطَّاب ☺ سنة عشرين على الصَّحيح. وقيل: مات في زمن النَّبي صلعم والذي حارب المسلمين ولده وكان يُلقَّب أيضاً قيصر، وعلى كلِّ تقدير فالمرادُ من الحديث وقع لا محالةَ لأنهما لم تبقَ مملكتهما على الوجه الذي كان في زمن النَّبي صلعم كما مرَّ.
          فوجه مطابقة الحديث للترجمة أظهر من أن تخفَى.
          وقال القرطبيُّ: في الكلام على الرِّواية التي لفظها: ((إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده))، وعلى الرواية التي لفظها: ((هلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده)) بين اللَّفظين بون، ويمكن الجمع بأن يكون أبو هريرة ☺ سمع أحد اللَّفظين قبل أن يموت كسرى والآخر بعد ذلك. قال: ويحتمل أن يقعَ التَّغاير بالموت والهلاك، فقوله: ((إذا هلك كسرى))؛ أي: هلك ملكه وارتفعَ، وأمَّا قوله: «مات كسرى، ثمَّ لا يكون كسرى بعده»، فالمراد به: كسرى حقيقة، انتهى.
          ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «هلك كسرى» تحقُّق وقوع ذلك حتى عبَّر عنه بلفظ الماضِي، وإن كان لم يقعْ بَعْدُ للمبالغة في ذلك، كما قال تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]. وهذا الجمع أولى لأنَّ مخرج الرِّوايتين متَّحدٌ، فحملَه على التَّعدد خلاف الأصل، / فلا يصار إليه مع إمكان هذا الجمع، والله تعالى أعلم.
          والحديث قد مضى في «الخمس» من وجه آخر عن أبي هريرة ☺ في باب: قول النَّبي صلعم : ((أحلَّت لكم الغنائم)) [خ¦3120].