التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب يستحب للكاتب أن يكون أمينًا عاقلًا

          ░37▒ بَابُ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا عَاقِلًا
          7191- ذَكَرَ فيه حديثَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ☺ السَّالِفَ في التَّفسير [خ¦4679].
          والعَسِيبُ المذكورُ فيه جَرِيدةٌ مِن النَّخلِ، وهي السَعَفَةُ ممَّا لا ينبُتُ عليه الخُوصُ، والجمعُ العُسُبُ بِضَمَّتينِ. و(اللِّخَافِ) جمع لَخْفَةٍ بالخاءِ المعجَمَةِ، وهي حِجَارةٌ بِيضٌ رِقَاقٌ، وفي البُخَارِيِّ أنَّها (الخَزَفُ).
          قال المُهَلَّب: هذا الحديث يدلُّ أنَّ العقلَ أصلُ الخِلالِ المحمودةِ كالأمانةِ والكِفَايةِ في عظيمِ / الأمورِ؛ لأنَّه لم يَصِفْ زيدًا بأكثرَ مِن العقلِ وجعلهُ سببًا لائتمانِه ورَفْعِ التُّهمةِ عنه بقولِ الصِّدِّيق: (إِنَّكَ شَابٌّ عَاقِلٌ لَا نتَّهِمُكَ).
          وفيه دليلٌ على اتخاذِ الكاتب للسُّلطانِ والحاكمِ وأنَّه ينبغي أن يكونَ الكاتبُ عاقلًا فَطِنًا مقبولَ الشَّهادةِ، هذا قول كافَّةِ الفقهاء، وقال الشَّافعِيُّ: ينبغي لكاتب القاضي أن يكون عاقلًا لئلَّا يُخدَعَ ويحرِصَ على أنْ يكونَ فقيهًا لئلَّا يُؤتَى مِن جهالةٍ ويكونَ بعيدًا مِن الطَّمَعِ.
          فَصْلٌ: وفيه أنَّ مَن سبقتْ له معرفةٌ بالخدمةِ أنَّه أَوْلى بالوِلايةِ وأحقُّ بها ممَّن لا سابقةَ له بذلك ولا معرفة.
          وفيه جواز مراجعةِ الكاتبِ للسُّلطان في الرَّأيِ ومشاركتِه له فيه.
          فَصْلٌ: إنْ قال رَافِضيٌّ: كيف جاز للصِّدِّيق أن يجمعَ القرآنَ ولم يَجمَعْهُ الشَّارعُ؟ أجاب ابنُ الطَّيِّب أنَّه يجوزُ أنْ يفعلَ الفاعلُ ما لم يَفعَلْهُ الشَّارعُ إذا كان فيه مصلحةٌ في وقتِه واحتياطٌ للدِّين، وليس في أدلَّةِ الكِتابِ والسُّنَّةِ ما يدلُّ على فسادِ جمْعِه بين اللَّوحينِ وتحصينِه وجَمْعِ هَمِّهِمْ على تأمُّلِه وتسهيلِ الانتساخِ منه والرُّجوعِ إليه والغِنَى به عن تطلُّبِ القرآن مِن الرِّقَاعِ والعُسُبِ وغيرِ ذلك ممَّا لا يُؤمَنُ عليه الضَّياعُ.
          فوجب إصابةُ الصِّدِّيق وأنَّه مِن أعظَمِ فضائلِه وأشرفِ مناقبِه حين سَبَقَ إلى ما لم يَسبِقْ إليه أحدٌ مِن الأئمَّةِ، وبانَ اجتهادُه في النُّصْحِ لله ولِرسولِه ولِكِتابِه ولِدِينِه وجميعِ المؤمنين، وأنَّه في ذلك متَّبِعٌ لله ولرسولِه لإخبارِه تعالى في كتابِه أنَّ القرآنَ كان مكتوبًا في الصُّحُفِ الأولى، وأخبرَ عن تلاوةِ رسولِه في الصُّحُفِ بقولِه: {رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً. فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البيِّنَة:2-3] فلم يكنْ جَمْعُ الصِّدِّيقِ مُخَالِفًا لله ورسولِه لأنَّه لم يَجمَعْ ما لم يكن مجموعًا، ولم يكتُبْ ما لم يكن مكتوبًا، وقد أَمَرَهم الشَّارعُ بِكتابتِه فقال: ((لا تَكتبُوا عنِّي شيئًا سِوى القرآن)) فألَّفَ المكتوبَ وصانَه وأحرزَهُ وجمعَهُ بين لوحيهِ ولم يغيِّرْ منه شيئًا، ولا قدَّم منه مؤخَّرًا ولا أخَّرَ منه مُقَدَّمًا ولا وَضَعَ حرفًا ولا آيةً في غيرِ موضِعِها.
          ودليلٌ آخرٌ: أنَّ الله ضَمِنَ لِرسولِه ولِسائرِ الخلْقِ جَمْعَ القرآنِ وحِفْظَهُ فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16]. وقال: {لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42] فنَفَى عنه إبطالَ الزَّائغينَ وإلباسَ الملحِدِين، ثمَّ أَمَرَ رسولَه والأُمَّةَ بِحِفْظِه والعملِ به، فوجب أن يكون كلُّ أمرٍ عادَ بتحصينِه وأدَّى إلى حِفْظِه واجبًا على كافَّةِ الأُمَّةِ فِعْلُه، فإذا قام به البعضُ فقد أحسَنَ ونابَ عن باقي الأُمَّةِ.
          وقد رَوَى عبدُ خيرٍ عن عليٍّ ☺ أنَّه قال: يرحَمُ اللهُ أبا بكَرٍ هو أوَّلُ مَن جَمَعَ القرآنَ بين لوْحَين. وهذا تعظيمٌ منه لِشأنِه ومَدْحٌ له، وعليٌّ ☺ أعلمُ مِن الرَّافضة بِصوابِ هذا الفعل، فيجبُ تَرْكُ قولِهم لِقولِه. وممَّا يدلُّ على صِحَّةِ هذه الرِّوايةِ عن عليٍّ ☺ ابتغاؤه لأجْرِه وإطلاقُه للنَّاسِ كَتْبَ المصاحفِ وحضُّه عليها وإظهارُه تحكيمَ ما ضمَّ الصِّدِّيقُ والجماعة بين لوحَين، ولو كان ذلك عنده مُنكَرًا لَمَا أخرج إلى الدُّعاء إلى مَن يُخالِفُه مُصْحفًا ينشُرُهُ للرِّيح، وإنَّما كان يُخرِجُه مِن الصُّحُفِ والعُسُبِ واللِّخَافِ على وجهِ ما كان مكتوبًا في زمنِ رسولِ الله صلعم، فدل أنَّه مصوِّبٌ لِفِعْلِ الصِّدِّيق والجماعةِ، وأنَّ ذلك رأيُه ودِينُه.
          وقد سَلَفَ في بابِ جَمْعِ القرآنِ مِن كتابِ فضائلِ القرآن بقيَّةُ الكلام في معاني هذا الحديث، فراجعه.
          فَصْلٌ: فيه مِن الفوائدِ جوازُ دخولِ أهلِ الفضلِ والعِلْمِ على أهلِ الفضلِ والعِلْمِ مِن الأمراءِ. والحرصُ على جَمْعِ القرآنِ وضبْطِهِ بالكِتابِ وفي إثباتِه إثباتُ العِلمِ. ومراجعةُ العلماء في ذلك خِيفةَ أنْ ينقطعَ العِلمُ بموتِ العلماء. وبذْلُ النَّصيحةِ لله ولرسولِه ولأئمَّةِ المسلمينَ. والرُّجوعُ إلى الحقِّ إذا تبيَّنَ. واختيارُ الأئمَّةِ لمن يُقدِّمونَهُ في الأمورِ ممَّن اجتمَعَ فيه العِلْمُ والفقهُ والضَّبطُ والسُّنَّةُ. وأنَّ المصالحَ العامَّةَ ينبغي للإمامِ أنْ ينظُرَ فيها ويصونَها عنده ولا يُهْمِلها كما فَعَلَ الصِّدِّيق والفاروقُ فيما جمَعَهُ زَيدٌ مِن القرآن.
          فَصْلٌ: قولُه: (قَالَ أبو بَكْرٍ: هُوَ وَاللهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُثُّ مُرَاجَعَتِي) كذا هنا، وقال في جمْعِ القرآن: فلم يزلْ أبو بَكْرٍ يُرَاجِعُني.