التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية

          ░4▒ بَابُ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْإِمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً
          7142- ذَكَرَ فيه حديثَ أَبِي التَّيَّاحِ _وهو لَقَبٌ، واسمُه يَزِيدُ بنُ حُمَيدٍ وكُنيتُه أبو حمَّادٍ_ عَنْ أَنَسٍ ☺: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا). الحديثَ، وسَلَفَ في الصَّلاةِ [خ¦693].
          7143- وحديثَ أَبِي رَجَاءٍ _واسمُه عِمْرَانُ بنُ مِلْحانَ العُطَارِديُّ_ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻، يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ). وسَلَفَ قريبًا [خ¦7053] [خ¦7054].
          7144- وحديثَ ابْنِ عُمَرَ ☻: (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ).
          7145- وحديثَ عَلِيٍّ ☺ في السَّرِيَّةِ سَلَفَ في المغازي [خ¦4340].
          وفيها أجمعَ وجوبُ السَّمعِ والطَّاعةِ ما لم يُؤمَرْ بمعصيةٍ، ومِثْلُ ذلك الوَلَدُ لِوالِدِهِ والعبْدُ في حقِّ سيِّدِهِ. فإنْ ظنَّ ظانٌّ أنَّ في حديثِ أَنَسٍ وابْنِ عبَّاسٍ ♥ حُجَّةٌ لِمَن أَقْدَمَ على معصيةِ اللهِ بأمْرِ سُلطانٍ أو / غيرِه _وقد وردتِ الأخبارُ بالسَّمْعِ والطَّاعةِ لِوُلَاةِ الأمْرِ_ فقد ظنَّ خطأً، وذلك أنَّ أخبارَه لا يجوزُ أنْ تَتَضَادَّ، وأمْرُهُ ونَهْيُهُ لا يجوز أن يتناقضَ أو يتعارضَ، وإنَّما الأخبارُ الواردةُ بالسَّمْعِ والطَّاعةِ لهم ما لم يكن خِلافًا لأمْرِ اللهِ ورسولِه، فإذا كان خِلافًا لذلك فغيرُ جائزٍ لأَحَدٍ أنْ يُطيعَ أَحَدًا في معصيةِ اللهِ ومعصيةِ رسولِه، وبنحوِ ذلك قال عامَّةُ السَّلفِ، وساق ابنُ جَرْيرٍ مِن قولِ عليٍّ ☺: حقٌّ على الإمامِ أنْ يحكُمَ بما أنزلَ اللهُ ويؤدِّيَ الأمانةَ، فإذا فَعَلَ ذلك فحقٌّ على النَّاسِ أنْ يَسمعُوا ويُطيعُوا، ورُوِيَ مِثْلُهُ عن مُعَاذِ بن جَبَلٍ.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: قولُه: (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) لا يُوجِبُ أن يكونَ المستعمِلُ للعبدِ إلَّا إمامٌ قُرَشيٌّ لِمَا تقدَّم أنَّه لَا تجوزُ الإمامةُ إلَّا في قُرَيشٍ.
          وقد أجمعتِ الأُمَّةُ على أنَّه لا يجوزُ أن تكونَ الإمامةُ في العبْدِ، أي في الحديثِ في الإمارةِ لا في الخلافةِ، يؤيِّدُهُ قولُه: (وَإِنِ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ) يريدُ الإمامَ الخليفة كما يُرْوَى: ((استَعمَلَ عبدًا)) والحبشُ مِن جنسِ السُّودانِ.
          فَصْلٌ: وقولُه: (مَنْ رَأَى شَيْئًا يكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ) يعني مِن الظُّلْمِ والجَوْرِ، فأمَّا مَن رأى شيئًا مِن مُعارضةِ الدِّين بِبِدْعةٍ أو قَلْبِ شريعةٍ فليخرُجْ مِن تلكَ الأرضِ ويُهاجِرْ منها، وإنْ أمكنَهُ إمامٌ عادلٌ.
          فَصْلٌ: والمِيتَةُ في قولِه: (مَاتَ مِيتَةً) بكسْرِ الميمِ كجِلسةٍ.
          وقولُه في حديثِ عليٍّ ☺: (وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ) هو عبدُ اللهِ بنُ حُذَافةَ السَّهمِيُّ. و(عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ) بفتْحِ الزَّاي.
          وقولُه: (لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا) (لَمَا) بمعنى إلَّا مشدَّدٌ، حكى سِيبَوَيْه: تقولُ نَشَدْتُكَ اللهَ لَمَا فَعَلْتَ، أي إلَّا فعلتَ. وفي «الصِّحاح»: وقولُ مَن قال: (لَمَا) بمعنى إلَّا فليسَ يُعرَفُ في اللُّغةِ.
          وقولُه: (خَمَدَتِ النَّارُ) هو بفتْحِ الميم، وضُبِطَ بكسْرِها وليس بمعروفٍ في اللُّغةِ، ومعنى (خَمَدَتِ) سكَنَ لَهَبُها ولم يَطْفَأْ جمْرُها، وهَمَدَتْ إذا طَفِئَ جمرُها.
          وقولُه: (لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا) قال الدَّاوُدِيُّ: إنْ كان محفوظًا فيحتملُ أن يريدَ تلك النَّارَ نفْسَها فيموتوا فيها ليس أنَّهم يُخلَّدُون في جهنَّم؛ لِقولِه: ((يَخرُجُ مِن النَّار مَن في قلبِهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن إيمانِ)) قال: وهذا مِن المعارِيضِ الَّتي فيها مَنْدُوحةٌ عن الكذبِ، وقال المُهَلَّب: الأبَدُ ها هنا يُراد به أبدَ الدُّنيا لِقولِه تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء:48] ومعلومٌ أنَّ الَّذين هَمُّوا بِدُخولِ النَّارِ لم يَكْفُرُوا بذلك فيَجِبُ عليهم التَّخليدُ أَبَدَ الآخرةِ، أَلَا ترى قولَهم: (إِنَّمَا اتَّبَعْنَا رَسُولَ اللهِ صلعم فِرَارًا مِنَ النَّارِ) يدلُّ هذا أنَّه أرادَ ◙ لو دخلوها لماتُوا فيها ولم يَخرجُوا منها مُدَّةَ الدُّنيا.
          فَصْلٌ: قال القاضي أبو بَكْرٍ بنُ الطَّيِّب: أجمعتِ الأُمَّة أنَّه يُوجِب خلعَ الإمامِ وسقوطَ فرضِ طاعتِهِ كفرُهُ بعد إيمانِه وتَرْكُهُ إقامةَ الصَّلاةِ والدُّعاءَ إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالِمًا غاصبًا للأموال يَضرِبُ الأبشارَ ويتناولُ النُّفوسَ المحرَّمةَ ويُضَيِّعُ الحُدُودَ ويُعطِّلُ الحقوقَ، فقال كثيرٌ مِن النَّاسِ: يجبُ خَلْعُهُ لذلك، وقال الجمهورُ مِن الأئمَّةِ وأهلِ الحديثِ: لا يُخلع بهذه الأمور، ولا يجِبُ الخروجُ عليه بل يجبُ وَعْظُهُ وتخويفُهُ وتَرْكُ طاعتِه فيما يدعو إليه مِن المعاصي. واحتجُّوا بحديثِ البابِ حديثِ أنسٍ وأَمْرِهِ بالصَّلاةِ وراءَ كلِّ بَرٍّ وفاجِرٍ، ويُروَى أنَّه قال: ((أَطِعْهم وإنْ أَكَلُوا مَالَكَ وضَرَبوا ظَهْرَكَ ما أقامُوا الصَّلاةَ)).
          قال القاضي أبو بَكْرٍ: وممَّا يُوجِبُ خَلْعَهُ الجنونُ المُطْبِقُ وذهابُ تمييزِه حتَّى يُيْأَسَ مِن صِحَّتِهِ، والصَّمَمُ والخَرَسُ والكِبَرُ والهَرَمُ، أو عَرَضَ له أمرٌ يَقطعُه عن مصالحِ الأُمَّة لأنَّه إنَّما نُصِبَ لِذلك؛ فإذا عطَّلَ ذلك وجَبَ خَلْعُهُ. وكذلك إن حَصَلَ مأسورًا في أيدِي العدُوِّ إلى مُدَّةٍ يُخافُ معها الضَّررُ الدَّاخلُ على الأُمَّةِ، ويُيْأَسُ مِن خلاصِه وجبَ الاستبدالُ به.
          فإن فُكَّ أسرُهُ وثابَ عَقْلُهُ أو بَرِئَ مِن مرضِه وزَمَانتِهِ لم يَعُدْ إلى أَمْرِه وكان رَعِيَّةً للقائم؛ لأنَّه عُقِدَ له عند خَلْعِه وخروجِه مِن الحقِّ فلا حقَّ له فيه. ولا يُوجِب خَلْعَهُ حدوثُ فَضْلٍ في غيرِه كما يقول أصحابُنا: إنَّ حُدُوثَ الفِسقِ في الإمامِ بعدَ العَقْدِ لا يوجِبُ خَلْعَه، ولو حدثَ عند ابتداءِ العَقْد لَبَطَلَ العَقْدُ ووجبَ العُدُولُ عنه. وأمثالُ هذا في الشَّريعة كثيرٌ، منها رُؤيةُ الماءِ للمُتيمِّم قبْلَ الدُّخولِ في الصَّلاةِ يوجِبُ الوُضوءَ، ولو طرأَ عليه وهو فيها لم يلْزَمْهُ، أي إنْ كانت ممَّا يَسقُطُ فرْضُها بالتَّيمُّمِ، وكذلك لو وجبتْ عليه الرَّقَبةُ في الكَفَّارة وهو مُوسِرٌ لم يجزِئْه غيرُها، ولو حَدَث له اليَسَارُ بعد مُضِيِّهِ في شيءٍ مِن الصِّيامِ لم يَبْطُلْ حُكمُ صيامِه ولا لَزِمَه غيرُه.