التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: متى يستوجب الرجل القضاء؟

          ░16▒ بَابٌ مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ؟
          وَقَالَ الحَسَنُ:، ثُمَّ قَرَأَ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} إِلَى {يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] وَقَرَأَ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} إِلَى قَولِهِ: {الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وَقَرَأَ: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلَا مَا ذَكَرَ اللهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ.
          وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي فِيهِنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ فَهِمًا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صَلِيبًا، عَالِمًا، سَؤولًا عَنْ الْعِلْمِ.
          الشرح: قولُ الحَسَنِ أسنَدَهُ أبو نُعَيمٍ الحافظُ مِن حديثِ أبي العوَّامِ القطَّانِ عن قَتَادَةَ عنه، وكذا قولُ مُزَاحمٍ أخرجه مِن حديثِ أسماءَ عن عُبَيدٍ عنه.
          واعلم أنَّ شَرْطَ القاضي أن يكونَ مجتهدًا، وطُرُقُ الاجتهادِ مقرَّرةٌ في الأصولِ والفروعِ فلا نُطوِّلُ بها، فإنْ لم يكن مجتهدًا فيها، ومَن رآه النَّاسُ أهلًا للقضاءِ، ورأى هو نفْسَه أهلًا فقد استحقَّهُ، ولا يكفي النَّاسُ فقط لأنَّه إذا عَلِم النَّاسُ منه هذا الرَّأيَ لم يَفْقِدْ مَن يُزيِّنُ له ذلك ويَستحمِدُ إليه.
          قال مالكٌ: ولا يُستقضَى مَن ليس بفقيهٍ. وذَكَرَ ابنُ حَبِيبٍ عنه أنَّه قال: إذا اجتمعَ في الرَّجُلِ خَصلتانِ رأيتُ أنْ يُولَّى: العِلْمُ والوَرَعُ. قال ابنُ حَبِيبٍ: فإنْ لم يكن عِلْمٌ فعقلٌ وَوَرَعٌ لأنَّه بالوَرَعِ يَقِفُ وبالعقلِ يَسألُ، وإذا طَلَبَ العلمَ وَجَدَهُ، وإنْ طَلَبَ العقلَ لم يَجِدْهُ. وهذا فيه دِلالةٌ على جوازِ توليةِ القضاء لِغير عالِمٍ، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ، ودليلُنا عليه قولُه تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاس بِمَا أَرَاكَ الله} [النساء:105].
          فَصْلٌ: إذا استوجبَ القضاءَ، فهل للسُّلطان إجبارُه عليه؟ قال ابنُ القاسم عن مالكٍ: لا إلَّا أَن لَا يوجَدَ منه عوضٌ. قيل له: أَيُجْبَرُ بالحبْسِ والضَّربِ؟ قال: نعم. قلتُ: وقد جُبِرَ غيرُ واحدٍ إليه، وجماعةٌ امتنعوا مِن الدُّخولِ فيه لعِظَمِه.
          فَصْلٌ: قال المُهَلَّب: والحِلْمُ الَّذي ينبغي أنْ يَلْزَمَهُ القاضي هو توسِعَةُ خُلُقِه للسَّماعِ مِن الخصمين، وألَّا يُحرَجَ بِطُولِ ما يُخرِجُه أحدُهما وإن رآه غيرَ نافعٍ له في خصامِه فلْيصبِرْ عليه حتَّى يبلُغَ المتكلِّمُ مرادَه؛ لأنَّه قد يمكنُ أنْ يكونَ ذلك الكلامُ الَّذي لا يَنتَفِعُ به سببًا إلى ما يَنتَفِعُ به، وأيضًا فإنَّهُ إذا لم يُترَكْ أنْ يتكلَّمَ بما يريدُ نَسَب إليه الخصم أنَّه جَارَ عليه ومَنَعَه الإدلاءَ بحُجَّتِه وأثارَ على نفْسِه عداوةً، وربَّما كان ذلك سببًا لِفِتْنَةِ الخصمِ ووجَدَ إليه الشَّيطانُ السَّبيلَ وأوهَمَهُ أنَّ الجَورَ مِن الدِّين.
          فَصْلٌ: والنَّفْشُ في الآيةِ الرَّعْيُ ليلًا، نَفَشَتِ الدَّابَّةُ تَنْفُشُ نُفُوشًا إذا رَعَتْ ليلًا بلا راعٍ، وهَمَلَتْ إذا رَعَتْ نهارًا بلا راعٍ. والوَصْمَةُ العيبُ والعارُ.
          وقولُه: (صَلِيبًا) يريدُ الصَّلابةَ في إنفاذِ الحقِّ حتَّى لا يخافَ في اللهِ لومةَ لائمٍ، ولا يَهابَ ذا سُلطانٍ أو ذا مالٍ وغيرَه، ولْيكُنْ عنده الضَّعيفُ والقويُّ والصَّغيرُ والكبيرُ في الحقِّ سواءً.
          فَصْلٌ: وقولُ الحَسَنِ: (أَخَذَ اللهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَلَا يَخْشَوُا النَّاسَ) وما استَشْهَدَ عليه مِن كتاب الله فَكُلُّ ذلك يدلُّ أنَّ اللهَ فَرَضَ على الحُكَّامِ أنْ يَحكمُوا بالعدْلِ، وقد قال تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] وكذلك فَرَضَ عليهم ألَّا يخشَوُا النَّاسَ، ولهذا قال عُمَرُ بن عبدِ العزيز في صِفَةِ القاضي: (أَنْ يَكُوْنَ صَلِيبًا) وعنه: حتَّى يكونَ وَرِعًا نَزِهًا مستشيرًا لِذَوِي الرَّأيِ عارفًا بآثارِ مَن مَضَى.
          وقولُه: (أَنْ يَكُوْنَ عَفِيفًا) أَخَذَهُ مِن قولِ اللهِ تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [البقرة:41].
          فَصْلٌ: واختلف العلماء في قولِه تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاس بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى} [ص:26] فقالت طائفةٌ: الآيةُ عامَّةٌ في كلِّ النَّاسِ، وكلُّ خصمَينِ تَقَدَّما إلى حاكمٍ فَعَلَيْه أن يَحكُمَ بينهما، والنَّاسُ في ذلك سواءٌ. وسواءٌ كان للحاكم ولَدٌ أو والدٌ أو زوجةٌ وهم وسائر النَّاسِ في ذلك سواءٌ. / وذهب الكوفيُّونَ والشَّافعِيُّ إلى أنَّه لا تجوز شهادتُه له ويحكمُ لِسائر النَّاس، وزاد أبو حنيفةَ: ولا يحكُمُ لِولدِ وَلَدِه لأنَّ هؤلاء لا تجوزُ شهادتُه لهم.
          واختلف أصحاب مالكٍ في ذلك، فقال مُطَرِّفٌ وسُحْنُون: كلُّ مَن لا يَجُوزُ للحاكمِ أنْ يَشهَدَ له لا يَجُوزُ حُكْمُه له، وهم الآباء فمَن فوقَهم والأبناءُ فمَن دونَهم إلَّا لِوَلَدِه الصَّغيرِ وزوجتِه ويتيمِه الَّذي يَلِي مالَه. وقال ابنُ الماجِشونِ: يجوز حُكمُه للآباءِ والأبناءِ فمَنْ فوقَهم ومَن دونهم إلا الولدَ الصَّغيرَ الَّذي يلي مالَه أو يتيمَه أو زوجته، ولا يُتَّهم في الحكم كما يُتَّهَمُ في الشَّهادةِ لأنَّه إنَّما يحكمُ بشهادةِ غيرِه مِن العُدُولِ.
          وقال أصبغُ مِثْلَ قولِ مُطَرِّفٍ إذا قال: ثبتَ له عندي، ولا يدري أَثَبَتَ له أم لا ولم يحضر الشُّهُود، فإذا حضروا وكانت الشَّهادةُ ظاهرةً بحقٍّ بيِّنٍ فَحُكْمُهُ لهم جائزٌ ما عدا زوجتَه وولدَه الصَّغيرَ ويتيمَه الَّذي يلي أمْرَهُ كقولِ ابنِ الماجِشُون؛ لأنَّ هؤلاء كنَفْسِه فلا يجوز له أن يَحكمَ لهم. والقولُ الأوَّلُ أَولى لِشهادة عمومِ القرآن له قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} الآية [ص:26] وخاطَبَ الحكَّامَ فقال: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] فَعَمَّ تعالى جميعَ النَّاس، وقد حَكَمَ الشَّارعُ لِزَوجَتِه عَائِشَةَ على مَن رماها وأقامَ عليهم الحدَّ.
          قلتُ: ذلك مِن خُصوصيَّاتِه، ويجوزُ أنَّ اللهَ لَمَّا أنزلَ براءَتها أَمَرَهُ بذلك. وليس رَدُّ شهادةِ الولَدِ لِوالدِه وعكسِهِ بإجماعٍ مِن الأمَّةِ فيكونُ أصلًا لِذلك، وقد أجاز شهادةَ الوالِدِ لِولَدِه عُمَرُ بنُ الخطَّاب وعمَرُ بنُ عبدِ العزيز وإِياسُ بن مُعَاويَة، وهو قول أبي ثورٍ والمُزَنيِّ وإِسْحَاقَ.
          فَصْلٌ: الآيةُ الأُولَى قيل فيها: جازَ أن يُقال خلفاء. وقولُه: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] أي تَرَكُوا العملَ له فكانوا ناسِينَ له، قاله السُّدِّي، وقال عِكْرِمَةُ: هو مِن التَّقديمِ والتَّأخيرِ، أي لهم يوم الحِسَابِ عذابٌ شديدٌ بما نَسُوا، أي بما تَرَكُوا أَمْرَ اللهِ والقضاءَ بالعدْلِ.
          فَصْلٌ: والآيةُ الثَّانيةُ يجوز أن يكون المعنى فيها هدًى ونورٌ للذين هَادُوا عليهم ثمَّ حَذَفَ. وقيل: لهم بمعنى عليهم مِثْلُ: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] و{الَّذِينَ أَسْلَمُوا} هنا نَعْتٌ فيه معنى المدْحِ مثل: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، {وَالرَّبَّانِيُّونَ} العلماءُ الحُكماءُ، وأصْلُه ربُّ العِلْمِ، والألِفُ والنُّونُ للمبالغة، وقال مُجَاهدٌ: هُم فوقَ الأَحْبارِ والأَحْبارُ العلماءُ لأنَّهم يُحَبِّرُون الشَّيءَ وهو في صُدُورِهم مُحَبَّرٌ. واختُلِف لِمَ سُمِّي حِبْرًا؟ فقال الفرَّاء: أي مِدَادَ حِبْرٍ ثمَّ حذفَ مثل: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} [يُوسُفَ:82] وأنكره الأصْمَعِيُّ وقال: إنَّما سُمِّي حِبْرًا لتأثيرِه، يُقال: على أسنانِهِ حِبْرٌ، أي صُفرةٌ وسَوَادٌ.
          فَصْلٌ: والآيةُ الثَّالثةُ قال مَسْرُوقٌ: كان الحَرْثُ عِنَبًا فَنَفَشَتْ فيه الغنمُ، أي رَعَتْ ليلًا كما سَلَفَ، وهو ما قاله الهَرَوِيُّ في «غريبيه» وفي «الصِّحاح»: الهَمَلُ بالتَّحريكِ يكون ليلًا ونهارًا، فقضى داودُ بالغَنَمِ لأصحابِ الحَرْثِ فمرُّوا بسُلَيْمانَ فأخبروه، فقال: نعم أقضي به، وغيرُه كان أرفقَ للفريقين، فدخل أصحابُ الغنمِ على داودَ فأخبروه، فأرسلَ إلى سُلَيْمانَ فَعَزَمَ عليه بحقِّ النُّبُوَّةِ والْمُلْكِ كيف رأيتَ فيما قضيتُ؟ فقال: عَدَلَ الملِكُ وأَحْسَنَ، وغيرُهُ كان أرفقَ بهما جميعًا، قال: ما هو؟ قال: تدفعُ الغنمَ إلى صاحبِ الحَرْثِ فلهم لَبَنُها وسَمْنُها وأولادُها، وعلى أهلِ الغَنَمِ أن يَزْرعُوا لِأهلِ الحَرْث حَرْثَهم، فقال داودُ ◙: نِعْمَ ما قضيتَ. قيل: عَلِم سُلَيْمانُ أنَّ قيمةَ ما أفْسَدَتْهُ مِثْلُ ما يصيرُ إليهم مِن لَبَنِها وصوفِها.
          وقد أسْلَفْنَا أنَّ ناقةً للبَرَاءِ ☺ أفْسَدَتْ في حائطٍ، ((فقضَى ◙ أنَّ على أهلِ الحَوَائطِ حِفْظَها نهارًا، وأنَّ ما أفْسَدَتهُ المواشي ضَامِنٌ على أهلِها)) أي ضَمَانَ قيمتِهِ، وهذا خلافُ شَرْعِ سُلَيْمانَ، فإن تُرِكَ هذا ورَضِيا بِدَفْعِ الغنمِ عن قيمةِ ما أَفْسَدَتْ فمشهورُ مذهبِ مالكٍ أنَّه لا يجوزُ حتَّى يَعْرِفا قيمةَ المفسَد، ونصَّ عليه ابنُ شعبانَ، وفي «كتاب مُحَمَّدٍ»: وإنْ لم يَعرف القيمةَ، وقولُه تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمان} [الأنبياء:79] يعني القضيَّةَ.
          وقولُه: (لَوْلَا مَا ذَكَرَ اللهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ) إلى آخرِه، قال الدَّاوُدِيُّ: إنَّما أَثنَى عليهما بقولِه: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] ولم يَعْذِرِ الجاهلَ، وقد صحَّ أنَّ القضاةَ ثلاثةٌ: اثنانِ في النَّارِ وواحدٌ في الجنَّةِ. قال طَاوُسٌ: أَشَرُّ النَّاسِ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ إمامٌ قاسِطٌ. وقال مَكْحُولٌ: لو خُيِّرْتُ بين القضاءِ وبين المالِ لاخترتُ القضاء، ولو خُيِّرت بينَه وبينَ ضرْبِ عُنُقِي اخترتُ ضرْبَ عُنُقِي.