التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب موعظة الإمام للخصوم

          ░20▒ بَابُ مَوْعِظَةِ الْإِمَامِ لِلْخُصُومِ
          7169- ذَكَرَ فيه حديثَ أمِّ سَلَمَةَ ♦ أَنَّه صلعم قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بِشْرٌ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ نَحْوَ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ).
          هذا الحديثُ سَلَفَ في المظالِمِ [خ¦2458] وأوائلِ كتاب الحِيَلِ [خ¦6967] وأمُّ سَلَمَةَ اسمُها هندُ وهي ابنةُ عمِّ أبي جَهْلٍ، ماتتْ سنةَ تسْعٍ وخمسينَ وهي أوَّلُ ظَعِينةٍ دَخَلَتِ المدينةَ.
          ومعنى: (أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ) أفطنُ لها وأجدَلُ، وقال ابنُ حَبِيبٍ: أَنْطَقُ وأقوى مأخوذٌ مِن قولِه تعالى {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} [مُحَمَّد:30] أي في نُطْقِ القَوْلِ. وقيل: معناه أنْ يكونَ أحدُهما أعلمَ بمواقِعِ الحُجَجِ وأَهْدَى لإيرادِها ولا يخلِطُها بغيرِها. قال أبو عُبَيدٍ: اللَّحَنُ _بفتْحِ الحاء_ الفِطْنَةُ، وبالإسكانِ الخطأُ في القولِ. ويؤيِّده روايتُهُ في كتابِ المظالمِ بلفظِ: ((أبلغ مِن بعضٍ)) ويأتي بعدُ أيضًا.
          وذكر ابن سِيدَه: لَحَنَ الرَّجُلُ لَحْنًا: تكلَّم بِلُغَته، ولَحَنَ له يَلْحَنُ لَحْنًا: قال له قولًا يَفْهَمُهُ عنه ويَخْفَى على غيرِه، وأَلْحَنَهُ القولَ أفهمَهُ إيَّاهُ، فَلَحِنَهُ لَحَنًا فَهِمَهُ، ولَحَنَ لَحْنًا عن / كُراعٍ كذلك، وهي قليلةٌ والأوَّلُ أعرَفُ، ورجُلٌ لَحِنٌ عالِمٌ بعواقبِ الكلامِ ظريفٌ، ولَحِنَ لَحْنًا فَطِنَ لِحُجَّتِهِ وانتبهَ لها، ولَاحَنَ النَّاسَ فاطنَهم، ومنه قولُ عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ: عجبتُ لمن لَاحَنَ النَّاسَ ولَاحَنُوهُ، كيف لا يعرِفُ جَوامِعَ الكَلِمِ، ورجلٌ لاحِنٌ _لا غير_ إذا صرفَ كلامَهُ عن جِهَتِهِ، ولا يُقالُ: لَحَّانٌ. وعَرَفَ ذلك في لَحْنِ كلامِه أي فيما يميلُ إليه، وفي التَّنزيلِ: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ} [مُحَمَّد:30].
          وفي «جامع القزاز» عن الخليلِ: إنَّ تَرْكَ الصَّوابِ يجوزُ فيه التَّحريكُ، وأنكره بعضُهم، وقال غيرُه: بالسكونِ يكونُ إزالةَ الشَّيءِ عن جهتِهِ وفي الخطأ، وأنشدَ:
مَنطِقٌ صائبٌ وتَلْحَنُ أَحْيَانَا                     وَخَيْرُ الحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا
          فهنا في اللَّحْنِ التَّعميمُ وإزالتُهُ عن وجهِهِ، ولِذلك جعلَهُ خيرَ الحديثِ لأنَّه إنَّما يَعلمُه مَن يفطَنُ له وليس كالَّذي يعلمُهُ كلُّ سامِعٍ. ومعنى صَائِبٌ في هذا، أي مِن صابَ يَصُوبُ، أي هو غزيرٌ كثيرٌ متينٌ.
          وقيل: إنَّما أراد هنا اللَّحْن الَّذي هو إزالةُ الإعرابِ لأنَّ الجاريةَ لَيُسْتَمْلَحُ ذلك منها، وقال ثعلبٌ: اللَّحْنُ قبيحٌ مِن كلِّ أَحَدٍ. قال مُعَاويَةُ: كيف ابنُ زِيادٍ فيكم؟ قالوا: ظريفٌ على أنَّه يَلْحَنُ، قال: فذلك أظرفُ له. ذَهَبَ مُعَاويَةُ إلى اللَّحَنِ الَّذي هو الفِطْنَةُ، وذهبوا هُم إلى اللَّحْنِ الَّذي هو الخطأُ.
          وقال عُمَرُ بن الخطَّاب ☺: تعلَّموا الفرائضَ واللَّحْن كما تَعلَّمون القرآنَ. قيل: أرادَ اللُّغَةَ، وقيل: أرادَ الخطأَ لأنَّ مَن تعلَّمَ الخطأَ تعلَّمَ الصَّوابَ، والعربُ تقولُ: هذا لَحْنُ بني فلانٍ إنَّما تريدُ لغتَهُم، ومنه قولُ عُمَرَ ☺ في أُبيِّ بن كَعْبٍ: وإنما أرغبُ عن كثيرٍ مِن لَحْنِهِ. يريدُ لُغَتَه. قال الشَّاعرُ:
وَمَا هاجَ هذا الشَّوْقَ إلَّا حَمَامةٌ                     تَبَكَّتْ على خَضْراءَ سُمْرٌ قُيودُهَا
صَدُوحُ الضُّحَى مَعْرُوفَةُ اللَّحْنِ لم تَزَلْ                     تَقُودُ الهَوَى مِنْ مُسْهَدٍ ويَقوُدُها
          والجمع: لُحُون. وقولُه:
يُرَدِّدَانِ لُحُونًا ذات أَلْوَانِ
          يريد: عندَهم لغاتٌ. وقيل: اللَّحْنُ ها هنا ضروبُ الأصواتِ الموضوعةِ، فلِذلك يقولون: لَحَّنَ في قراءَتِه إذا قرأ بتطريبٍ.
          فَصْلٌ: فيه ما ترجم له أنَّه يَنبغي للحاكمِ أن يَعِظَ الخصمينِ ويُحذِّر مِن المظالِمِ ومُطالبةِ الباطلِ لأنَّه ◙ وَعَظَ أُمَّتَهُ بقولِه هذا.
          فَصْلٌ: وقولُه: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) على معنى الإقرارِ على نفْسِهِ بصفة البَشَرِيَّةِ مِن أنَّه لا يعلمُ مِن الغيبِ إلَّا ما أعلمَهُ اللهُ منه.
          وقولُه: (إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ) يريدُ واللهُ أعلمُ: وأنا لا أعرفُ المحِقَّ منكم مِن الْمُبْطِلِ حتَّى نميِّزَ المحقَّ منكم مِن الْمُبْطِل فلا يأخذِ الْمُبْطِلُ ما نُعْطِيه.
          وقولُه: (فَأَقْضِي لَهُ بِنَحْوِ مَا أَسْمَعُ) وفي روايةٍ: ((فأتي بذلك)) وهذا يَقتضي أنَّ الحاكمَ مأمورٌ بأن يقضِي بما يُقِرُّ به الخصمُ عنده.
          وقولُه: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ) خطابٌ للمقضِيِّ له لأنَّه يَعلَمُ مِن نفْسِه هل هو مُحِقٌّ أو مُبْطِلٌ؟ فَيُبَيِّنَ له أنَّه لا يغترَّ بالحكم لأنَّ الحكمَ لا يَنقُلُ الأصلَ عمَّا كان عليه.
          فَصْلٌ: فيه أنَّ القاضي لا يَقضِي بِعِلْمِه، وفيه نظرٌ وذلك أنَّه إذا عَلِمَ شيئًا لا يُمْكِنُهُ أنْ يَقضيَ بِخِلافِه، بل يرفَعُ ما عَلِمَه إلى غيرِه أو لا يَحكُمُ بظاهرِ قولِ الخصمِ إلَّا إذا لم يكن عنده عِلْمُ المحِقِّ منهما، ومَن قال: يقضي بِعِلْمِهِ فإنَّه ينفِّذُ ما عَلِمَه مِن غيرِ التفاتٍ إلى قولِ الخصمِ.