التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب أجر من قضى بالحكمة

          ░3▒ بَابُ أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
          7141- ذَكَرَ فيه حديثَ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ الله ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلعم: (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا).
          هذا الحديثُ سَلَفَ في كتابِ العِلم [خ¦73].
          والآيةُ قال الحَسَنُ: نَزَلَتْ في أهلِ الكِتابِ تَرَكُوا أحكامَ اللهِ تعالى كلَّها، يعني في الرَّجْمِ والدِّيَات، قال: وهي علينا واجبةٌ. وقال الشَّعْبيُّ: الكافرونَ في أهلِ الإسلامِ والظَّالمونَ في اليَهُودِ والفاسِقونَ في النَّصَارى. وقال عَطَاءٌ وطَاوُسٌ: كفرٌ ليس ككُفْرِ الشِّرْكِ وظلمٌ ليس كظُلْمِ الشِّركِ وفِسْقٌ ليس كفِسْقِ الشِّرك. قال القاضي إسماعيلُ: وظاهرُ الآياتِ يدلُّ على أنَّ مَن فَعَلَ مِثْلَ ما فعلُوا واختَرَعَ حكمًا خالفَ به حُكم اللهِ وجَعَلَهُ دِينًا يُعْمَلُ به فقد لَزِمَهُ مثلُ ما لَزِمهم مِن لُزُوم الوعيدِ حاكمًا كان أو غيرَه، أَلَا ترى أنَّ ذلك نُسِب إلى جُملةِ اليَهُودِ حين عَمِلوا به.
          قال ابنُ بطَّالٍ: ودلَّت الأحاديثُ على أنَّ مَن قضى بما أنزل اللهُ فقد استحقَّ جزيلَ الأجرِ، أَلَا ترى أنَّه ◙ أباحَ حَسَدَهُ ومنافَسَتَه فدلَّ أنَّ ذلك مِن أشرفِ الأعمالِ وأَجَلِّ ما تُقُرِّبَ به إلى الله، وقد رَوَى ابنُ المنذر عن مُحَمَّدِ بن إسماعيلَ: حدَّثنا الحَسَنُ بن عليٍّ حدَّثنا عِمْرَانُ القطَّانُ أبو العوَّام عن أبي إِسْحَاقَ الشَّيبانيِّ عن ابنِ أبي أَوْفَى قال: قال رسولُ الله صلعم: ((اللهُ مع القاضِي ما لم يجُرْ فإذا جارَ تخلَّى عنه ولَزِمَهُ الشَّيطان)).
          فَصْلٌ: اقتصرَ البُخَارِيُّ مِن الآيةِ على ما ذَكَرَ ولم يَذكُرْ {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولا {فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِروُنَ} لأنَّه قيل: إنَّما نَزَلَ ذلك في اليَهُودِ والنَّصارى، نبَّه عليه الدَّاوُدِيُّ. وعن ابنِ عبَّاسٍ ☻ _فيما حكاه النَّحَّاسٌ_ هو به كافِرٌ لا كفرًا بالله وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه، وقد أسلفْنَا قوْلَ الشَّعْبيِّ في ذلكَ وهو الظَّاهر.
          قال النَّحَّاس: وأحسنُ ما قيل فيه أنَّها كلَّها في الكُفَّارِ، ولا شكَّ أنَّ مَن ردَّ حُكمًا مِن أحكامِ الله فقد كفَرَ، وقد أجمعتِ الفقهاءُ أنَّ مَن أنكَرَ حُكمَ الرَّجْمِ أنَّه كافِرٌ لأنَّه ممَّن ردَّ حُكمًا مِن أحكامِ الله تعالى.
          ورُوِيَ أنَّ حُذَيفةَ سُئل عن هذه الآيةِ: أهي في بني إسرائيلَ؟ قال: نعم، ولَتَسْلُكُنَّ سُبُلَهم حَذْوَ النَّعْلِ بالنَّعْلِ. وقال الحَسَن: أَخَذَ اللهُ على الحُكَّامِ ثلاثةَ أشياء لا تَتْبَعُوها: الهوى، ولا تَخشَوِا النَّاسَ ويَخْشَوْهُ، ولا يَشترُوا بآياتِ اللهِ ثمنًا قليلًا.
          فَصْلٌ: قد أسلفْنا في كتابِ العِلْمِ أنَّ المرادَ بالحَسَدِ هنا التغبُّطُ، وقال ثَعْلَبٌ: (لاَ حَسَدَ) لا يَضُرُّ. والفرْقُ أنَّ الأوَّلَ لا يتمنَّى زوالَها بخلافِ الثَّاني. قال ابنُ الأعرابيِّ: الحَسَدُ مأخوذٌ مِن الحَسْدَلِ وهو القُرَادُ، فهو يَقْشِرُ القلبَ كما يَقْشِرُ القُرَادُ الجِلْدَ فيمصُّ الدَّمَ.