التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم فهو رد

          ░35▒ بَابٌ إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلَافِ أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ
          7189- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنِ عُمَرَ ☻ قَالَ: (بَعَثَ النَّبِيُّ صلعم خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا) الحديث. سَلَفَ في المغازي [خ¦4339].
          و(جَذِيمَةَ) ابن عامِرِ بن عبدِ مَنَاةَ بن كِنَانةَ، أهل الغُمَيْصَاءَ بين مكَّةَ واليمن.
          قال الدَّاوُدِيُّ: لم يرَ ◙ على خالدٍ قَوَدًا لأنَّه متأوِّلٌ، ولم يذكر فيه دِيَةً ولا كفَّارةً فإمَّا أن يكون ذلك قبل نزولِ الآية أو سقَطَ ذلك عن المحدِّثِ أو سكتَ عنه لِعِلْمِ السَّامعِ به. وقال الخطَّابيُّ: إنَّما نقَمَ ◙ على خالدٍ لاستعجالِه في شأنِهم وتَرْكِ التَّثَبُّتِ في أمْرِهم إلى أن يستبرئَ ما أرادوا بقولِهم: صَبَأْنَا؛ لأنَّ الصَّبَأ خروجٌ مِن دينٍ إلى دينٍ.
          وقولُه: (إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِن فِعْلِ خَالِدٍ) على وجهِ الإنكارِ عليه والتَّعريفِ بأنَّه لم يأذَنْ له في ذلك لئلَّا يُعتقدَ أنَّ فِعْلَ خالدٍ كان بإذنِه، ولِيَنْتَهِيَ غيرُه عن مِثلِ ذلك.
          فَصْلٌ: لم يختلفِ العلماءُ أنَّ القاضيَ إذا قَضَى بجَورٍ أو بخلافِ أهلِ العلمِ فهو مردودٌ، فإنْ كان على وجهِ الاجتهادِ والتَّأويلِ كما صنعَ خالَدٌ فإنَّ الإثمَ ساقَطٌ فيه، والضَّمَانُ لازمٌ في ذلك عند عامَّةِ أهلِ العلم، إلَّا أنَّهم اختلفوا في ضَمَانِ ذلك على ما يأتي بيانه.
          ووجهُ موافقةِ الحديثِ للتَّرجمةِ قولُه ◙: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ) يدلُّ تبرُّؤه مِن قَتْلِ خالدٍ الَّذين قالوا: صَبَأْنَا أنَّ قتْلَهُ لهم حكمٌ منه بغيرِ الحقِّ لأنَّ اللهَ تعالى يَعلمُ الألسِنَةَ كلَّها ويقبلُ الإيمانَ مِن جميع أهلِ المِلَلِ بألسِنَتِهم، لكنْ عَذَرَهُ الشَّارعُ بالتَّأويلِ إذْ كلُّ متأوِّلٍ فلا عقوبةَ عليه ولا إثم. /
          فَصْلٌ: واختلفوا في ضمانِ خَطَأ الحاكمِ، فقالت طائفةٌ: إذا أخطأ الحاكمُ في حُكْمِه في قتْلٍ أو جِرَاحٍ فِدَيةُ ذلك في بيتِ المال، هذا قولُ الثَّورِيِّ وأبي حنيفةَ وأحمدَ وإِسْحَاقَ. وقالت أخرى: هو على عَاقِلَةِ الإمامِ والحاكمِ، وهذا قولُ الأَوْزَاعِيِّ وأبي يُوسُفَ ومُحَمَّدٍ والشَّافعِيِّ. وليس فيها جواب لمالكٍ، واختلفَ أصحابُه فيها فقال ابنُ القاسمِ كقولِ الأوزاعيِّ، وقال في الشَّاهِدَينِ إذا شَهِدَا في دمٍ أو عِتْقٍ أو طلاقٍ أوحدٍّ من الحدودِ: أَرَى أنْ يَضْمَنَا الدَّين ويكونَ عليهما قيمةُ العبدِ في العِتقِ وقِصَاصُ العَقْلِ في أموالهمَا. وهو قولُ أشهبَ في الشَّاهدَينِ، وقال في الأموالِ: مضمونةٌ بالخطأ كما هي بالعَمْدِ، وليستْ كالدِّماء، وهو قولُ أصبغَ. وقال ابنُ الماجِشُون: ليس على الحاكم شيءٌ من الدِّيَةِ في مالِه ولا على عَاقِلَتِه ولا على بيتِ المال، وكذلك قال في الشَّاهدَينِ إذا رَجَعَا عن شهادتِهما وادَّعيا الغلطَ أنَّه لا غُرْمَ عليهما، وهو قولُ مُحَمَّدِ بن مَسْلَمةَ. وذَكَرَ ابنُ حَبِيبٍ أنَّ قولَ ابنِ الماجِشُون هو قولُ المُغِيرةِ وابن دِيْنَارٍ وابنِ أبي حازِمٍ وغيرِهم.
          وحُجَّةُ مَن لم يُوجِبِ الدِّيَةَ أنَّه لم يَرِد في الحديثِ أنَّه ◙ أَغْرَمَهُ الدِّيَةَ ولا غَرِمَها عنه. قلتُ: صحَّح الحاكمُ أنَّه ◙ أرسلَ إليهم عليًّا فوَدَى قتلاهم. وقولُه ◙: ((إذا اجتهدَ الحاكمُ فأخطَأَ فله أجرٌ)) ولا يجوز أن يؤجَر إلَّا على ما هو بِفِعْلِهِ مطيعٌ، فإذا كان مطيعًا فَمَا صدَرَ عنه مِن تَلَفِ نفْسٍ أو مالٍ فلا ضمان عليه، وهو اختيار إسماعيلَ بن إِسْحَاقَ.
          وحُجَّةُ مَن أوجبَ الضَّمانَ والدِّيَةَ الإجماعُ على أنَّ الأموالَ مضمونةٌ بالخطأ كما هي بالعَمْدِ، ولا تَسقُطُ الدِّيَةُ في ذلك مِن أجل أنَّها لم يُذكَرْ في الحديث وجوبُها، كما لم تَسقُطْ في النَّاقَتَيْنِ عن حمزةَ حين جبَّ أسنِمَتَهُما وبَقَرَ خواصِرَهُما، وإن كان لم يُذكَرْ في ذلك الحديث.
          ورُوِيَ عن عُثْمانَ ☺ أنَّه جعلَ عَقْلَ المرأةِ الَّتي أَمَرَ بِرَجْمِها على عَاقِلَتِه. ورُوِيَ أنَّ امرأةً ذُكِرَتْ بالزِّنا عند عُمَرَ ☺، فَبَعَثَ إليها فَفَزِعَتْ وألقَتْ ما في بطنِها، فاستشارَ الصَّحابةَ في ذلك، فقال له عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ وغيرُه: إنَّما أنت مؤدِّبٌ ولا شيءَ عليك، فقال لِعليٍّ ☺: ما تقول؟ فقال: إنْ كان اجتهدُوا فقد أخطأوا وعليكَ الدِّيَةُ، قال عُمَرُ ☺: عزمتُ عليك لَتَقْسِمَنَّها على قومِك. فأوجب عَلِيٌّ بحضرةِ الصَّحابةِ الدِّيَةَ وألزَمَ بها عُمَرَ ☺ وقَسَمها على عاقِلَتِه، والمرأةُ وإن كانتْ أسقطتْ مِن الفَزَعِ فهو مِن جهتِه. وليس في قولِه صلعم: ((إذا اجتهدَ الحاكمُ فأخطأَ)) دليلٌ على إسقاطِ الضَّمان في ذلك، وإنَّما فيه سقوطُ الإثمِ عن المجتهدِ وأنَّه مأجورٌ إن لم يتعمَّدْ ذلك الخطأَ، ولا يُفهَمُ مِن الحديثِ زوالُ الضَّمانِ.