التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: من شاق شق الله عليه

          ░9▒ بَابٌ مَنْ شَاقَّ شَقَّ الله عَلَيْهِ
          7152- ذَكَرَ فيه حديثَ طَرِيفٍ أَبِي تَمِيمَةَ قَالَ: شَهِدْتُ صَفْوَانَ وَجُنْدَبًا وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ الله صلعم شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ: (وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنْ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُحَولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ.
          الشَّرح: قال الخطَّابيُّ: معنى الحديثِ مَن رَاءَى بِعِلْمِهِ وسمَّع النَّاسَ لِيُكرِمُوهُ بذلك ويَعْلَمُوهُ فَضَحَهُ الله يومَ القيامةِ، حتَّى يرى النَّاسُ ويَسمعُوا ما يَحِلُّ به مِن الفضيحةِ عقوبةً على ما كانَ مِنه في الدُّنيا مِن حُبِّ الشُّهرةِ والسُّمعةِ. وقال الدَّاوُدِيُّ: يعني مَن سمَّع بمؤمنٍ شيئًا يُشَهِّرُ به أقامَهُ اللهُ يومَ القيامةِ مقامًا يُسَمِّعُ به. ونَقَلَ صاحبُ «العين»: سمَّعْتُ بالرَّجُلِ إذا أذعتَ عنه عيبًا، والسُّمعةُ ما سمَّعَ به مِن طعامٍ أو غيرِه ليُرَى ويُسْمَع.
          ومِصْداقُ هذا الحديثِ في القرآنِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [النور:19]، وهذا التَّفسيرُ يأتي في قولِه: ((مَن سمَّع بِعَمَلِهِ سمَّعَ اللهُ به خَلْقَهُ وحقَّرَهُ وصَغَّرَهُ)) وروى بعضُهم: ((أَسَامِعَ خَلْقِهِ)) يُقالُ: سمَّعتُ بالرَّجُلِ تَسْميعًا إذا نددَّتُ به وشهَّرْتُهُ، فَمَنْ رَوَاه: ((سَامِعُ خَلْقِهِ)) بِرَفْعِ العينِ أراد سمَّعَ اللهُ الَّذي هو سامِعُ خَلْقِه، جعل ((سامِعُ)) مِن نَعْتِ ((اللهُ)) المعنى فضحه الله، ومَن رواه: ((أَسَامِعَ خَلْقِه)) بالنَّصْبِ فهو جمع أَسْمُعٍ، يُقال: سَمْعٌ وأَسْمُعٌ وأَسَامِعُ جمْعُ الجمْعِ، يريدُ أنَّ الله يسمِّعُ أسَامِعَ خَلْقِهِ بهذا الرَّجُلِ يومَ القيامة، ويحتمل أن يكونَ أراد أنَّ الله يُظهِرُ للنَّاسِ سريرتَه ويملأ أسماعَهُم بما ينطوي عليه مِن خُبثِ السَّرائرِ جزاءً لِفِعْلِهِ، كما قال في موضعٍ آخرَ: ((ومَن تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ المسلمين تتَّبَعَ الله عَوْرَتَه حتَّى يفضحَهُ)).
          وقال ابنُ سِيدَه: فَعَلْتُ ذلكَ تَسْمِعَتَكَ وتَسْمِعَةً لَكَ، أي لِتَسْمَعَهُ، وما فعلتُ ذلكَ رِيَاءً ولا سَمْعَةً، وقال اللِّحيَّانيُّ: ولا سُمْعَةً. وفي «المغيث»: قيل أي مَن سمَّعَ النَّاسَ بِعَمَلِهِ سمَّعَهُ اللهُ وأراه ثوابَه مِن غيرِ أنْ يُعْطِيَهُ. وقيل: مَن أرادَ بِعَمَلِهِ النَّاسَ أسمعهُ اللهُ النَّاسَ، ذلك ثوابُهُ فقط.
          فَصْلٌ: وقولُه: (وَمَنْ يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللهُ عَلَيْهِ) فالمشاقَّة لغةٌ مشتقَّةٌ مِن الشِّقاقِ وهو الخِلاف، ومنه: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} الآية [النساء:115] والمرادُ بالحديث النَّهيُ عن القولِ القبيحِ في المؤمنين وكَشْفِ مساوئِهم وعيوبِهم، وقال الخطَّابيُّ: يحتمل أن يكون معنى الحديثِ أنْ يضارَّ النَّاسَ ويَحمِلَهم على ما يشقُّ عليهم مِن الأمرِ. وقال الدَّاوُدِيُّ: يعني الأعلى في الدِّين، قالا: ويحتمل أن تكون المشاقَّةُ مفارقةَ الجماعةِ فيكونَ ذلك مِن شِقاقِ الخِلاف، ورجَّحَهُ الدَّاوُدِيُّ.
          فَصْلٌ: وفي الحديثِ مِن المعاني أنَّ المجازاةَ قد تكونُ مِن جِنْسِ الذَّنْبِ، أَلَا ترى قولَه: (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بِهِ...) إلى آخرِه. قال صاحبُ «العين»: شقَّ الأمرُ عليكَ مَشقَّةً أضرَّ بك. وفي وصيَّةِ أبي تَمِيمةَ الحضُّ على أكل الحلالِ والكفِّ عن الدِّماء.
          فَصْلٌ: وقولُه: (إِنَّ أَوَّلَ مَا يُنْتِنُ مِنَ الرَّجلِ بَطْنُهُ) رُوِّيناه بضمِّ الياء، قال في «الصِّحاح»: نَتِنَ الشَّيءُ وأَنْتَنَ بمعنًى، فهو مُنْتِنٌ ومِنْتِنٌ بكسْرِ الميم إتْبَاعًا لِكَسْرَةِ التَّاء؛ لأنَّ مُفْعِلًا ليس مِن الأبنيةِ، والنَّتْنُ الرَّائحةُ الكريهةُ.
          فَصْلٌ: قولُه: (وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُحَولَ بَيْنَهُ...) إلى آخرِه، سَفْكُ الدِّماء بغيرِ حقٍّ مِن أكبرِ الكبائرِ بعدَ الشِّركِ، قال تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} الآية [النساء:93].
          وقولُه: (أَهْرَاقَهُ) صوابُه بفتْحِ الهمزةِ مثلُ أسْطَاع يُسْطِيعُ بقطْعِ الألِفِ، وهو يريدُ أَرَاقَ، وتُجعَلُ الهاء عوضًا مِن ذهابِ حركةِ عينِ الفعلِ، كما جُعِلَتِ السِّين في أسْطَاعَ، وفي روايةِ أبي ذَرٍّ: <هَرَاقَهُ> وأمَّا إِهْرَاقَهُ بِكسْرِ الهمزةِ فلا يصحُّ ذلك كما نبَّه عليه ابنُ التِّين.