التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب رزق الحكام والعاملين عليها

          ░17▒ بَابُ رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
          وَكَانَ شُرَيحٌ الْقَاضِي يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا. وَقَالَتْ عَائِشَةُ ♦: يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ، وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ☻
          7163- 7164- ثمَّ ساقَ حديثَ الزُّهْرِيِّ: أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ النَّمِرِ، أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ السَّعْدِيِّ _وهو عبدُ الله بنُ وَقْدَانٍ_ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ ☺ فِي خِلَافَتِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ ☺: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِيَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالًا، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ عُمَرُ: فمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا وَأَنَا بِخَيْرٍ، وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ، فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يُعْطِينِي الْعَطَاء فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: (خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلَّا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ).
          وَعَنِ الزُّهْرِيِّ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ☻ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلعم يُعْطِينِي الْعَطَاء فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ ◙: (خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ) الحديث كما قال. إلَّا أَنَّه قال: (وَمَا لَا فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ).
          الشَّرحُ: أَثَرُ شُرَيحٍ أخرجه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن الفَضْلِ بنِ دُكَينٍ / عن الحَسَنِ بنِ صالحٍ عنِ ابنِ أبي ليلى قال: بَلَغَنَا _أو قال: بَلَغَنِي_ أنَّ عليًّا ☺ رَزَقَ شُرَيحًا خمس مئةٍ. والتَّعليقُ عن عَائِشَةَ ♦ وأبي بكْرٍ وعُمَرَ ♥ سَلَفَ، وكان أَكْلُهُما في أيَّامِ خلافتِهِما لاشتغالِهما بأمورِ المسلمين ولهما مِن ذلك حقٌّ، وأمَّا قبْلَها فقد رُوِيَ أنَّهما كانا عامِلَيْنِ وذلك جائِزٌ أيضًا لهما. وحديثُ حُوَيطبٍ سَلَفَ أنَّه أحدُ الأحاديثِ الَّتي اجتمعَ فيها أربعةٌ مِن الصَّحابةِ.
          والزُّهْرِيُّ: مُحَمَّدُ بنُ مُسلمٍ، يُكَنَّى أبا بكْرٍ، ماتَ بالشَّامِ في رمضانَ سنةَ أربعٍ وعشرين ومئةٍ، والسَّائبُ بن يَزِيدَ حليفُ بني أُميَّةَ ماتَ سنةَ ستٍّ وثمانين، ووالدُه صحابيٌّ.
          فَصْلٌ: قام الإجماعُ على أنَّ أرزاق الحُكَّامِ مِن الفَيْءِ وما جرى مجراه ممَّا يُصرَفُ في مصالح المسلمين؛ لأنَّ الحُكْمَ بينهم مِن أعظمِ مصالحِهم.
          قال الطَّبَرِيُّ: وفيه الدَّليلُ الواضحُ على أنَّ مَن شُغِلَ بشيءٍ مِن أعمالِ المسلمين أَخَذَ الرِّزْقَ على عَمَلِه ذلك؛ لاشتغالِهما بأمورِ المسلمين كالوُلاةِ والقُضاةِ وجُباةِ الفَيْءِ وعُمَّالِ الصَّدَقةِ وشبههم؛ لإعَطَاء رسولِ الله صلعم لِعُمَرَ العُمالةَ على عملِه الَّذي استعملَه عليه، فكذلك سبيلُ كلِّ مشغولٍ بشيءٍ مِن أعمالِهم له مِن الرِّزق على قَدْرِ استحقاقِه عليه وسبيلُه سبيلُ عُمَرَ ☺ في ذلك.
          قال غيره: إلَّا أنَّ طائفةً مِن السَّلَفِ كرِهَتْ أَخْذَ الرِّزق على القضاءِ، رُوِيَ ذلك عن ابنِ مَسْعُودٍ والحَسَنِ البَصْريِّ والقاسمِ، وذَكَرَهُ ابنُ المنذرِ عن عُمَرَ بن الخطَّاب، وحكاه ابنُ أبي شَيْبَةَ عن مَسْرُوقٍ أيضًا، ورخَّصَتْ في ذلك طائفةٌ، وذَكَرَ ابنُ المنذرِ أنَّ زيدَ بن ثابتٍ كان يأخذُ على القضاءِ أجرًا، ورُوِيَ ذلك عن ابنِ سِيْرِينَ وشُرَيحٍ، وهو قولُ اللَّيثِ وإِسْحَاقَ وأبي عُبَيدٍ، والَّذين كرِهُوهُ ليس بحرامٍ عندَهم، وقال الشَّافعِيُّ: إذا أَخَذَ القاضي جُعْلًا لم يحرُمْ عندي.
          واحتجَّ أبو عُبَيدٍ في جوازِ ذلك بما فَرَضَ اللهُ للعاملينَ على الصَّدقةِ، وجَعَلَ لهم منها حقًّا لِقيامِهم وسعيِهم فيها. قال ابنُ المنذرِ: وحديثُ ابن السَّعديِّ حُجَّةٌ في جوازِ أرزاقِ القُضاة مِن وجوهِها. قال المُهَلَّبُ: وإنَّما كَرِهَ ذلك مَن كرِهَهُ لأنَّ أَمْرَ القضاءِ إنَّما هو محمولٌ في الأصْلِ على الاحتساب، ولِذلك عَظُمتْ منازلُهم وأجورُهم في الآخرة، أَلَا ترى أنَّ الله تعالى أَمَرَ نبيَّهُ صلعم وسائرَ الأنبياءِ ‰ أن يقولوا: ما أسألُكم عليه مِن أجْرٍ؛ ليكونَ ذلك على البراءة مِن الاتِّهام.
          ولِذلِكَ قال مالكٌ: أَكرَهُ أَجْرَ قُسَّامِ القاضي لأنَّ مَن مَضَى كانوا يَقْسِمُونَ ويحتسِبُون ولا يأخذون أجرًا، فأرادَ أن يُجرِيَ هذا الأمْرَ على طريقِ الاحتسابِ على الأصلِ الَّذي وَصَفَهُ اللهُ تعالى للأنبياءِ ‰ لئلَّا يدخُلَ في هذِه الصِّناعة مَن لا يَسْتَحِقُّها ويتحيَّلَ على أموالِ المسلمين، وأمَّا مَن حَكَمَ بالحقِّ إذا تصرَّف في مصالح المسلمين فلا يحرُمُ عليه أخْذُ الأجرِ على ذلك.
          وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ أنَّه استعملَ ابنَ مَسْعُودٍ على بيتِ المالِ وعمَّارَ بنَ ياسرٍ على الصَّلاةِ وابن حَنِيفٍ على الجُنْدِ ورزقَهم كلَّ يومٍ شاةً، شَطْرُها لعمَّارٍ ورُبْعُها لابنِ مَسْعُودٍ ورُبْعُها لابنِ حَنِيفٍ.
          وأمَّا العاملون عليها فَهُم السُّعاةُ المتولُّونَ لِقبْضِ الصَّدقات، ولهم مِن الأجر بِقَدْرِ أعمالِهم على حسب ما يراه الإمامُ في ذلك، وقد سَلَفَ هذا المعنى في كتابِ الزكاة، وفي كتابِ الوصايا اختلافُ العلماء فيما يجوز للوَصِيِّ أن يأكلَ مِن مالِ يتيمِه.
          وأمَّا قولُه ◙ لِعُمَرَ ☺ في العَطَاء: (خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ، وَتَصَدَّقْ بِهِ) فإنَّما أرادَ الأفضلَ والأعلى مِن الأجر؛ لأنَّ عُمَرَ وإنْ كان مأجورًا بإيثارِه بعطائِه على نفْسِه مَن هو أفقرُ إليه منه، فإنَّ أَخْذَهُ العَطَاءَ ومباشرتَه الصَّدقةَ بنفْسِه أعظمُ لِأَجْرِه، وهذا يدلُّ أنَّ الصَّدقةَ بعد التَّموُّلِ أعظمُ أجرًا لأنَّ خُلُق الشُّحِّ حينئذٍ مُسْتَوْلٍ على النُّفُوسِ.
          فَصْلٌ: وفيه أنَّ أخْذَ ما جاء مِن المالِ مِن غيرِ مسألةٍ أفضلُ مِن تَرْكِه؛ لأنَّه يقعُ في إضاعةِ المال وقد نهى الشَّارعُ عن ذلك.
          فَصْلٌ: قسَّمَ ابنُ التِّينِ رِزْقَ القُضاةِ قِسمينِ: مِن بيتِ المال، ومِن المتحاكِمِين، والأوَّلُ ثلاثةُ أقسامٍ:
          أحدُها: أن تكونَ لا شُبهةَ فيما يدخُلُها، والأخذُ منها جائزٌ قطعًا لكلِّ مَن وَلِيَ مِن أمورِ المسلمين شيئًا تعمُّهم منفعتُهُ.
          ثانيها: أن يكون الغالبُ فيها مِن غيرِ وجهِهِ فلا خلاف أنَّ التَّرْكَ أَولى، فإنْ أَخَذَ فإنْ كان فقيرًا أو مسكينًا جازَ، أو غنيًّا فمكروهٌ.
          ثالثُها: أن يكون غالبُ ما يدخلُها مِن وجهَه، فأمَّا الفقيرُ فيجوزُ له الأخذُ قطعًا، واختَلَفَ فِعْلُ العلماءِ المقتدَى بهم فمنهم مَن أخذ ومنهم مَن تَرَكَ، وافترقَ فِعْلُ الأوَّلينَ وعَمَلُهُم فيما أخَذُوا، فمِنهم مَن صَرَفَه في وجهِه ولم يَسَعْهُ تَرْكُ الأخْذِ عنه، ومنهم مَن صَرَفَهُ في مصالحِه.
          وأمَّا أَخْذُ القاضي مِن المتحاكمِينَ أو المستفتي، قال: فهي رِشْوةٌ محرَّمةٌ، وأمَّا العاملُ فقد فَرَضَ اللهُ له سَهمًا في الزَّكاةِ، وأمَّا الوَصِيُّ فإنْ كانَ في كفايةٍ والمالُ يَسيرٌ لا يَشغلُه فلا يأكُلُ منه، وإن كان كثيرًا وشَغَلَه النَّظرُ فيه جازَ له الأكلُ بالمعروفِ والتَّرْكُ أفضلُ، وإنْ كان فقيرًا والمالُ شَغَلَهُ جازَ له الأكْلُ بالمعروفِ، والأصحُّ عندنا أنَّه يأكلُ أقلَّ الأمرينِ مِن أُجْرَةِ عَمَلِهِ ونَفَقَتِهِ.
          فَصْلٌ: في الباب مِن الفوائدِ جوازُ الأخْذِ مِن بيتِ المال لكلِّ مَن تكلَّفَ مِن أمورِ المسلمين شيئًا، وكَشْفُ الإمامِ عمَّن له حقٌّ في بيتِ المال لِيُعْطِيَهُ إيَّاهُ، وكراهتُه الأخْذَ مع الاستغناءِ وإن كان المالُ طيِّبًا. وجوازُ الصَّدقةِ ممَّا لم يَقْبِضْ إذا كان له واجبًا، وقولُه ◙ لِعُمَرَ: (خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ) دالٌّ على أنَّ الصَّدقةَ بعد القبضِ، ولا شكَّ أنَّ ما حَصَلَ بِيَدِ الإنسان كان أشدَّ خُرُوجًا عليه، فمَن استوتْ عنده الحالتانِ / فمرتبَتُهُ أهلا، ولِذلك أَمَرَهُ ◙ بِأَخْذِهِ وبيَّنَ له جوازَ تموُّلِهِ إنْ أحبَّ والتَّصَدُّقِ به.
          فَصْلٌ: ذَهَبَ بعضُ الصُّوفيَّةِ أنَّ المالَ إذا جاءَ مِن غيرِ إشرافِ نفسٍ ولا سؤالٍ لا يُرَدُّ، فإن رُدَّ عُوقِبَ بالحرمان، ويُحكى عن أحمدَ أيضًا وأهلِ الظَّاهرِ.
          فَصْلٌ: قَسْمُ القضاةِ قِسمان: محتَسِبةٌ مِن غيرِ أُجرةٍ ولا شكَّ في قَبولِ شهادتِهم، وبِأَجْرٍ فإنْ كانتْ مِن بيتِ المالِ فلا بأس به، وإن كانَ مِن الأجنادِ فكذلك، وإليه ذَهَبَ مالكٌ لأنَّه إنَّما كَرِهَهُ لِمَا يأخُذُهُ مِن أموالِ اليتامَى، فإن كانوا سفهاءَ لا يجوز له أخْذُها إلَّا إذا استأجره الإمامُ أو الوصيُّ، وإن اختلفُوا فاستأجرَهُ الرُّشَداءُ فإنْ أَخَذَ مِن الرُّشَداءِ ما ينوبُهم وتَرَكَ ما ينوبُ السُّفهاءَ فذلك جائزٌ، وإنْ أرادَ أن يأخذَ مِن السُّفهاءِ نَظَرَ السُّلطان في ذلك. وأمَّا قاسِمُ الغنيمةِ، فقد قال ابنُ الماجِشُون: إنْ فعلَهُ احتسابًا فأَجْرُهُ على الله، وإن استُؤجِرَ فله أجرتُهُ.