التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس

          ░14▒ بَابُ مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أُمُورِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ وَالتُّهَمَةَ كَمَا قَالَ ◙ لِهِنْدٍ: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ). وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا.
          7161- ثمَّ ساقَه مِن حديثِ عَائِشَةَ ♦ وقد سَلَفَ [خ¦2211].
          وقد اختَلَفَ العلماءُ هل القاضي يَقضي بِعِلْمِه؟ فقال الشَّافعِيُّ / وأبو ثورٍ: جائزٌ له ذلك في حقوقِ الله وحقوقِ النَّاسِ سواءٌ، عَلِمَ ذلك قَبْلَ القضاءِ أو بعدَه، واستثنى الشَّافعِيُّ حُدُودَ الله تعالى لأنَّ المقصودَ فيها السَّتْرُ. وقال الكوفيُّون: ما شاهدَهُ الحاكمُ مِن الأفعالِ الموجبةِ للحُدُودِ قَبْلَ القضاءِ أو بَعْدَهُ فإنَّه لا يَحكُمُ فيها بِعِلْمِه إلَّا القَذْفَ، وما عَلِمَه قَبْلَ القضاءِ مِن حقوقِ النَّاسِ لم يحكُمْ فيه بِعِلْمِه في قولِ أبي حنيفةَ، بخلافِ ما إذا عَلِمَ بعدَه، وقال أبو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ: يحكُمُ فيما عَلِمَه قبْلَ القضاءِ بِعِلْمِه.
          وقالت طائفةٌ: لا يَقضي بعِلْمِه أصلًا في حقوقِ الله وحقوقِ الآدميِّين عَلِمَ ذلك قبلَ القضاءِ أو بعدَهُ أو في مجلِسِه، هذا قولُ شُرَيحٍ والشَّعْبيِّ وهو مشهورُ قولِ مالكٍ، وبه قال أحمدُ وإِسْحَاقُ وأبو عُبَيدةَ. وقال الأَوْزَاعِيُّ: ما أقرَّ به الخصمانِ عندَه أَخَذَهما به وأنفذَهُ عليهما إلَّا الحدَّ. وقال عبدُ الملك: يحكُمُ بعِلْمِهِ فيما كان في مجلس حُكمِه.
          واحتجَّ الشَّافعِيُّ بحديثِ البابِ وأنَّه ◙ قَضَى لها ولولدِها على أبي سُفْيَانَ بِنَفَقَتِهم ولم يسألْها على ذلك بَيِّنَةً؛ لِعِلْمِه بأنَّها زوجتُهُ وأنَّ نفقتَها ونفقةَ ولدِها واجبةٌ في مالِه، فَحَكَمَ بذلكَ على أبي سُفْيَانَ لِعِلْمِهِ بوجوبِ ذلك، وأيضًا فإنَّه مُتيقِّنٌ لِصِحَّةِ ما يقضي به إذا عَلِمه عِلْمَ يقينٍ، وليست كذلك الشَّهادةُ لأنَّها قد تكونُ كاذبةً أو واهمةً.
          وقد قام الإجماعُ على أنَّه له أن يُعَدِّلَ ويُسقِطَ العُدُولَ بِعِلْمِه إذا عَلِمَ أنَّ ما شَهِدُوا به على غيرِ ما شَهِدُوا به، وينفُذُ عِلْمُه في ذلك ولا يَقضي بِشهادتِهم، مِثالُ ذلك: أنْ يَعلمَ بِنتًا لِرَجُلٍ وُلِدَتْ على فِرَاشه، فإنْ أقامَ شاهدَين أنَّها مملوكةٌ فلا يجوزُ أن يقبلَهما ويُبيحَ له فَرْجًا حرامًا.
          وكذلك لو رأى رجلًا قتَلَ رجلًا ثمَّ جِيءَ بغيرِ القاتلِ، وشَهِدَ شاهدانِ أنَّه القاتلُ فلا يجوزُ أن يَقْبَلَهُمَا، وكذلك لو سَمِع رجلًا طلَّقَ امرأتَه طلاقًا بائنًا، ثم ادَّعت عليه المرأةُ الطَّلاقَ وأنكرَ الزَّوجُ فإنْ جَعَلَ القولَ قولَهُ فقد أقامَهُ على فَرْجٍ حرامٍ فيفسقُ، وإنْ لم يكن له بُدٌّ مِن أنَّه لا يَقبَلُ قولَهُ فيَحْكُمُ بعِلْمِه.
          واحتجَّ أصحابُ أبي حنيفةَ بأنَّ ما عَلِمَه الحاكمُ قَبْلَ القضاءِ إنَّما حَصَلَ في الابتداءِ على طريقِ الشَّهادةِ، فَلَمْ يَجُزْ أنْ يجعَلَه حاكمًا لأنَّه لو حكَمَ بِعِلْمِه لكانَ قد حَكَمَ بشهادةِ نفْسِه فكان مُتَّهمًا، وصار بمنزلةِ مَن قَضَى بِدَعْواهُ على غيرِه. وأيضًا فإنَّ عِلْمَه لَمَّا تعلَّقَ به الحُكمُ على وجْهِ الشَّهادةِ، فإذا قضى به صار كالقاضي بشاهدٍ واحدٍ، قالوا: والدَّليلُ على جوازِ حُكمِه فيما عَلِمَهُ في حالِ القضاءِ وفي مجلِسِهِ قولُه ◙: ((إنَّما أقضي على نحْوِ ما أسمعُ)) ولم يفرِّقْ بين سماعِه مِن الشُّهُودِ أو المدَّعَى عليه، فيجبُ أن يحكُمَ بما سَمِعَه مِن المدَّعَى عليه كما يحكُمُ بما سَمِعَه مِن الشُّهُودِ.
          وعندَ ابنِ أبي شَيْبَةَ: اختصمَ رجلانِ إلى عُمَرَ بنِ الخطَّاب ☺ وادَّعيا شهادةً فقال لهما: إن شئتمَا شهدتُ ولم أقضِ بينكما، وإن شئتما قضيتُ ولم أشهدْ. وعنده أيضًا أنَّ امرأةً جاءت شُرَيحًا بشاهدٍ، فقال: ائتِينِي بآخرَ، فقالت: أنتَ شاهدِي، فاستحلَفَها وقضَى لها. وفي لفظٍ: جاءَ رجلٌ إلى شُرَيحٍ يُخاصمُ، فجاء الآخَرُ عليه بشاهدٍ، ثمَّ قال لشُرَيحٍ: أنتَ شاهدي. قال شُرَيحٌ: ائتِ الأميرَ حتَّى أشهدَ لك. وقال الشَّعْبيُّ: لا أجمعُ أنْ أكونَ قاضيًا وشاهدًا.
          واحتجَّ أصحابُ مالكٍ بأنْ قالوا: الحاكمُ غيرُ معصومٍ، ويجوز أن تَلْحقَهُ الظِّنَّةُ في أن يَحكمَ لِوَلِيِّهِ على عَدُوِّهِ، فحُسِمَتْ المادَّةُ في ذلك بأَلَّا يَحْكُمَ بعِلْمِه؛ لأنَّه ينفردُ به ولا يَشْرَكُه فيه غيرُه، وأيضًا قد قال تعالى: {الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} الآية [النور:4] فأمرَ بجلْدِ القاذِفِ متى لم يُقِمْ بيِّنَةً على ما رمَى به المقذوفَ. وأيضًا فإنَّه ◙ قال في حديثِ اللِّعانِ: ((إنْ جاءتْ به على نَعْتِ كذا فهو للَّذِي رُميت به)) فجاءتْ به على النَّعْتِ المكروهِ، فقال ◙: ((لو كنتُ راجمًا أحدًا بغيرِ بَيِّنَةٍ لرجمتُ هذِه)) وقد عَلِمَ أنَّها زَنَتْ فلم يَرْجُمْهَا لِعَدَمِ البَيِّنَةِ، ورسولُ الله صلعم وإنْ كان لم يَقطَعْ أنَّها تأتي به على أَحَدِ النَّعتينِ فقد قَطَعَ على أنَّها إن جاءتْ به على أحدِهما فهو لِمَنْ وصفَ لا مَحَالةَ، وهذا لا يكونُ منه إلَّا بِعِلمٍ.
          رُوِيَ عن الصِّدِّيق أنَّه قال: لو رأيتُ رجُلًا على حدٍّ لم أَحُدَّهُ حتَّى يشهدَ بذلك عندي شاهدان، ولا مُخَالِفَ له في الصَّحابة. لو لمْ يُنْكِرِ الخصمُ حتَّى حكَمَ فأنكرَ بعدَه لم يَنظُرْ إلى الكَفَّارةِ. وقال ابنُ الجلَّاب: لا يُقبَلُ قولُ الحاكمِ إلَّا ببيِّنَةٍ.
          فَصْلٌ: قولُه: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ) الحديثَ، قال الدَّاوُدِيُّ: إنَّما أُمِرَتْ بِأَخْذِ ذلك في خُفيةٍ مِن حيث لا يَعْلَمُ، وارْتَفَعَتِ التُّهمةُ لأنَّها لو شاءت لم تَسأَلْ عن ذلك، وإنَّما قالتْه في شيءٍ لم تأتِ به.
          فَصْلٌ: مِن فوائدِه أنَّ للمظلومِ أنْ يقولَ في الظَّالمِ وأنْ يَذْكُرَهُ ببعضِ الظُّلمِ، قال تعالى: {لاَ يُحِبُّ الله الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء:148] وفيه أنَّ الرَّجُلَ يجوزُ أنْ يُقال فيه ما يَظهرُ مِن أَمْرِهِ ولم يُخْفِهِ مِن النَّاس.
          فَصْلٌ: قولُها: (أَهْلُ خِبَاءٍ...) إلى آخرِه، فيه أنَّ الدَّارَ تُسمَّى خِبَاءً وأنَّ القَبيلَةَ يُسمَّون خِبَاءً، وهذا مِن الاستعارةِ والمجاز. وفي حديثٍ آخَرَ أنَّه ◙ قال لها حين قالت هذا: ((وأيضًا)) كالمصَدِّقِ لها، وفي روايةٍ أخرى أنَّه قال لها: ((أنتِ هندُ؟)) لَمَّا ذكرتْ له اسمها قبلَ أن تَتَكلَّم، قالت: أنا يا رسولَ الله. ثمَّ تكلَّمَتْ وكانت مِن الدُّهاةِ.
          فَصْلٌ: قولُها: (إِنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُلٌ مِسِّيكٌ) أي بخيلٌ، وكذلك المُسُكُ بِضمِّ الميمِ والسِّينِ، وقيل له ذلك لأنَّه يُمسِكُ ما في يديْهِ ولا يُخرِجُه إلى أحدٍ.
          وفيه أنَّ للمرْءِ أنْ يأخُذَ لنفْسِه ولغيرِه ما يجِبُ لهم مِن مالِ المطلوبِ وإنْ لم يَعْلَمْ، وإنْ أجاز ذلك مِن أصحاب مالكٍ تَأَوَّلَ حديثَ: ((أدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنكَ ولا تَخُنْ مَن خانكَ)) أي لا تأخُذْ أكثرَ مِن حقِّكَ، واختُلِفَ عن مالكٍ فيمن جَحَدَهُ رجلٌ حقًّا فَقَدَرَ على مِثْلِه مِن مالِه مِن حيثُ لا يعلمُ أو مِن حيث لا يعلمُ إلَّا المطلوبُ، فقال: لا يأخذُ، وقال: يأخذُ، ذكره الدَّاوُدِيُّ. والَّذي ذَكَرَهُ أنَّ الخلافَ إنَّما هو إذا جَحَدَهُ مالًا ثمَّ استودعَه أنَّهُ لا يَجْحَدُه لمكانِ جَحْدِهِ إيَّاه. قال مالكٌ في «المدوَّنة»: لا يَجْحَدُه.
          قال ابنُ القاسم: ظننتُ أنَّه قال ذلك لِلحديثِ / السَّالفِ، وأمَّا إن قَدَرَ على أخْذِ مالِه وإنْ كان الَّذي جَحَدَ أوَّلًا لا دَيْنَ له عليه جاز لهذا أن يأخذَ؛ لهذا الحديثِ ولِقولِه تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} الآية [النحل:126] واختلفَ القائلون في أنَّه يَحْلِفُ له ما الَّذي يَنْويهِ الحالفُ، فقيل: يَحْلِفُ ما لك عندِي شيءٌ إلَّا دَيْنٌ مِثْلُهُ، وقيل: يلَزِمه ذِكْرُهُ.
          فَصْلٌ: وقولُه: (خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) استنبطَ منه بعضُهم أنَّ الولدَ تلزَمُ أباه نفقتُهُ وإنْ كان كبيرًا، وليس بجيِّدٍ لأنَّ أبا سُفْيَانَ لعلَّ ولدَه كان صغيرًا، وإنِ احتمل كِبَرُه فهي قِصَّةُ عينٍ لا حُجَّةَ فيها.