التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: هل يقضي الحاكم أو يفتى وهو غضبان؟

          ░13▒ بَابٌ هَلْ يَقْضِي الحَاكِمُ أَوْ يُفْتِي وَهُوَ غَضْبَانُ
          7158- ذَكَرَ فيه حديثَ أَبِي بَكْرةَ ☺: (لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ).
          7159- وحديثَ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبةَ بْنِ عَمْرٍو ☺: (أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّ مَنكُمْ مُنَفِّرِينَ) سَلَفَ في الصَّلاةِ [خ¦702] وموضِعُ الحاجةِ قولُه: (فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم قَطُّ أَشَدَّ غَضَبًا فِي مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ)، ثمَّ قَالَ ذلك.
          7160- وحديثَ يُونُسَ، قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ ☻ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ.
          الحديث تقدَّم في الطَّلاقِ [خ¦5251] ومُحَمَّدٌ هو ابنُ شهابٍ الزُّهْرِيُّ. وفيه: (فَتَغَيَّظَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلعم).
          الشَّرح: حديثُ أَبي بَكْرةَ أصلٌ في أنَّ القاضِي لا يَقضي وهو غَضْبانُ ولا معه ضَجَرٌ ونُعَاسٌ ولا هَمٌّ ولا جوعٌ ولا عطشٌ ولا حَقْنٌ، ولا وهو شبعانُ أكثرَ مِن الحاجة، وسواءٌ دَخَلَ على ذلك أو حدَثَ له ما يمكِنُ حدوثُهُ مِن ذلك بعد أن جلَسَ.
          قال المُهَلَّب: وهذا ندْبٌ منه خوفَ التَّجاوُزِ، أي لأنَّه لا يتأتَّى له في الغالبِ استقصاءُ الواجبِ في القضيَّةِ؛ لأنَّها تُغَيِّرُ الطِّباعَ وتُغيِّرُ العقلَ وهو مكروهٌ، رُوِيَ ذلك عن عليٍّ وعُمَرَ ☻ وشُرَيحٍ وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وهو قولُ مالكٍ والكوفيِّينَ والشَّافعِيِّ.
          وأمَّا قضاؤُه ◙ وهو غضبانُ فإنَّما فَعَلَ ذلك لِقيامِ العِصمةِ به حيثُ لا يُخشَى منه التَّجاوزُ والميلُ في حُكمِه بخلافِ غيرِه مِن البَشَرِ، ثمَّ غضبُهُ في الله تعالى لا لنفْسِهِ.
          وكان شُرَيحٌ إذا غَضِبَ أو جاعَ نامَ، وكان الشَّعْبيُّ يأكلُ عند طُلُوعِ الشَّمسِ، قيل له فقال: آخذُ حِلْمِي قَبْلَ أن أخرُجَ إلى القضاء. قال الشَّعْبيُّ: وأيَّ حالٍ جاءت عليه ممَّا يَعْلَمُ أنَّها تغيِّرُ عَقْلَهُ أو فَهْمَهُ امتَنَعَ مِن القضاءِ فيها.
          وقولي: بعدَ أنْ جلَسَ، احترزْتُ به عمَّا إذا أصابَه ضَجَرٌ بعد جُلوسِهِ، وفيه خِلافٌ عند المالكيَّةِ، قال ابنُ حَبِيبٍ: يقومُ، وقال ابنُ عبدِ الحَكَمِ: لا بأْسَ أنْ يُحَدِّث جلساءَه إذا مَلَّ يُرَوِّح قَلْبَهُ ثمَّ يعودُ إلى الحُكْمِ، واستحسَنَهُ بعضُهم قال: لأنَّه أخفُّ مِن قيامِهِ وانَصْرافِ النَّاسِ.
          واختُلِفَ هل يَحكُمُ مُتَّكِئًا؟ وقال الدَّاوُدِيُّ: وهذا إذا سَبَقَ الغَضَبُ، وأمَّا إذا صَنَعَ الخَصْمان ما يُغْضِبُه ولمْ يَستَحْكِمْ فيه الغَضَبُ حَكَمَ، فإنِ استحكَمَ فلا لأنَّ الشَّيطانَ أمكنُ ما يكون عند الغضبِ، ولهذا أُمِرَ الغضبانُ بالاستعاذةِ وتغييرِ الحال.
          فَصْلٌ: قولُه في حديثِ أبي مسعودٍ ☺: (فَلْيَتَجَوَّزْ) وفي روايةٍ: <فَلْيُوجِزْ> أي فَلْيَقْتَصِرْ. وحديثُ ابنِ عُمَرَ في طلاقِهِ الحائضَ ظاهِرٌ في تحريمِ إيقاعِهِ في الحَيْضِ وهو إجماعٌ، واختلفُوا في نُفُوذِه وفقُهاءُ الأمصار عليهِ وشذَّ مَن خالفَ.
          وقولُه: (فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا) أَخَذَ به الشَّافعِيُّ على إباحةِ الجمع بين الثَّلاثِ لأنَّه عامٌّ في الواحدةِ والأكثرِ. وأجاب عنه القاضي إسماعيلُ أنَّ الشَّارِعَ لم يُنكِرْ على ابنِ عُمَرَ ☻ الطَّلاقَ وإنَّما أنكرَ موضِعَهُ. قال: ولا أحسبُهُ أفقهَ مِن عُمَرَ وابنِه وقد قال: مَن فَعَلَهُ عصى ربَّه.