نجاح القاري لصحيح البخاري

باب النهي عن تلقي الركبان

          ░71▒ (بابُ النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ) أي: عن استقبالهم لابتياع ما يحملونه إلى البلد قبل أن يقدموا الأسواق (وَأَنَّ بَيْعَهُ مَرْدُودٌ) بفتح الهمزة، عطفاً على النهي؛ أي: وأنَّ بيع متلقِّي الركبان فالضَّمير يرجع إلى المتلقِّي الذي يدلُّ عليه قوله: ((عن تلقي الركبان))، والمراد بالبيع العقد وقوله مردود؛ أي: باطلٌ يردُّ إذا وقع.
          (لأَنَّ صَاحِبَهُ عَاصٍ آثِمٌ إِذَا كَانَ بِهِ) أي: بالنَّهي. قال الكرمانيُّ: وهذا العلم شرطٌ لكلِّ ما نهي عنه حتَّى يعصي فاعله انتهى، ولكن الجهل في وقتنا هذا ليس بغدرٍ.
          (عَالِماً، وَهُوَ خِدَاعٌ فِي الْبَيْعِ) أي: تلقي الركبان خداعٌ للمقيمين في الأسواق، أو لغير المتلقِّين، أو للركبان (وَالْخِدَاعُ لاَ يَجُوزُ) لقوله صلعم : ((الخديعةُ في النار)) [خ¦34/60-3350] أي: صاحبُ الخديعة، فذهب البخاريُّ في هذا إلى مذهب الظاهريَّة.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: جزم المصنِّف بأنَّ البيع مردودٌ بناء على أنَّ النَّهي يقتضي الفساد، لكن محلَّ ذلك عند المحققين فيما إذا كان النَّهي يرجع إلى ذات المنهيِّ عنه لا إلى أمرٍ خارج عنه، فيصحُّ البيع ويثبت الخيار الآتي ذكره.
          قال العينيُّ: هؤلاء المحققون هم الحنفيَّة فإنَّ مذهبهم في باب النهي هذا، ويبتنى على هذا الأصل مسائل كثيرةٌ ذكرت في كتب الفروع.
          هذا، وقال الكرمانيُّ: فإن قلت كون صاحب الفعل عاصياً لا يوجب ردَّ البيع كما في المحتكر فإنَّ فعله معصيةٌ وبيعه صحيحٌ، قلت: لعلَّ مذهب البخاريِّ أنَّ جميع أنواع البيوع المنهيَّة مردودةٌ، وقال بعض الأصوليين: جميع النواهي موجبٌ للفساد سواءٌ كان راجعاً إلى نفس العقد، أو أمراً داخلاً فيه، أو خارجاً لازماً له أو مفارقاً عنه، انتهى.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: وأمَّا كون صاحبه عاصياً آثماً، والاستدلال عليه بكونه خداعاً فصحيحٌ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون البيع مردوداً؛ لأنَّ النَّهي لا يرجع إلى نفس العقد ولا يخلُّ بشيءٍ من أركانه وشرائطه، وإنما هو راجعٌ إلى الإضرار بالركبان أو بأهل البلد.
          هذا، وقال ابن حزم: هو حرامٌ سواء خرج للتَّلقي أم لا، بعُد موضع تلقِّيه أم قرُب، ولو أنَّه عن السُّوق على ذراعٍ والجالب بالخيار إذا دخل السُّوق في إمضاء البيع وردَّه، وقال ابنُ المنذر: كره تلقِّي السِّلع للشراء مالك واللَّيث والأوزاعي، فذهب مالكٌ إلى أنَّه لا يجوز تلقِّي السلع حتى تصل إلى السُّوق، ومن تلقَّاها فاشتراها منهم يشركه فيها أهل السُّوق إن شاؤوا وكان واحداً منهم، وقال ابن القاسم: / وإن لم يكن للسِّلعة سوقٌ عرضت على النَّاس في المصر فيشتركون فيها إن أحبُّوا فإن أخذوها، وإلَّا ردُّوها عليه ولا يردُّ على بائعها، وقال غيره: يفسخ البيع في ذلك.
          وقال الشافعيُّ: من تلقَّاها فقد أساء وصاحب السِّلعة بالخيار إذا قدم به السُّوق في إنفاذ البيع أو ردِّه؛ لأنهم يتلقَّونه فيخبرونهم بكساد السِّلع وكثرتها وهم أهل غرَّةٍ ومكرٍ وخديعة، وحجَّته حديث أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة ☺: ((أنَّ النَّبي صلعم نهى عن تلقِّي الجلب فإن تلقَّاه فاشتراه فصاحبه بالخيار إذا أتى السوق)).
          وهذا حديثٌ أخرجهُ أبو داود والترمذي وصحَّحه ابن خزيمة من طريق أيوب، وأخرجه مسلمٌ من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ: ((لا تلقوا الجلب فمن تلقَّاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السُّوق فهو بالخيار)) أي: إذا قدم السُّوق وعلم بالسِّعر، وهل يثبت له فقط إذا شرط أن يقعَ له في البيع غبنٌ أم يثبت له مطلقاً؟ فيه وجهان، أصحُّهما الأول، وبه قالت الحنابلة.
          وظاهره أيضاً أنَّ النَّهي لأجل البائع وإزالة الضَّرر عنه وصيانته ممَّن يخدعه، وقال ابن المنيِّر: وحمله مالكٌ على نفع أهل الأسواق لا على نفع ربِّ السِّلعة وإلى ذلك جنح الكوفيُّون والأوزاعيُّ قال: والحديث حجَّةٌ للشافعيِّ؛ لأنَّه أثبت الخيار للبائعِ لا لأهل الأسواق، واحتج مالكٌ بحديث ابن عمر ☻ المذكور في آخر الباب، وسيأتي الكلام على ذلك.
          وقال الأبهريُّ: معناه: لئلَّا يستفيد الأغنياء وأصحاب الأموال بالشِّراء دون أهل الضعف، فيؤدِّي ذلك إلى الضَّرر بهم في معايشهم، ولهذا المعنى قال مالك: إنَّه يشترك معهم إذا تلقوا السِّلع ولا ينفرد بها الأغنياء، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا كان التلقِّي في أرضٍ لا يضرُّ بأهلها فلا بأسَ به، وإن كان يضرُّهم فهو مكروهٌ.
          واحتجَّ الكوفيُّون بحديث ابن عمر ☻ قال: ((كنَّا نتلقَّى الركبان فنشتري منهم الطعام / فنهانا النَّبي صلعم أن نبيعه حتَّى نبلغَ به سوق الطعام)) [خ¦2166]. قال الطحاويُّ: في هذا الحديث إباحة التَّلقِّي، وفي أحاديث غيره النهي عنه، وأولى بنا أن نجعلَ ذلك على غير التضادِّ فيكون ما نهي عنه من التلقِّي ما فيه من الضَّرر على غير المتلقِّين المقيمين في السُّوق وما أبيح منه هو ما لا ضرر فيه عليهم.
          وقال الطحاويُّ أيضاً: والحجَّة في إجازة الشراء مع التلقِّي المنهيِّ عنه حديث أبي هريرة ☺: ((لا تلقوا الجلب فمن تلقَّاه فهو بالخيار إذا أتى السوق جعل فيه الخيار مع النَّهي)) وهو دالٌّ على الصِّحَّة إذ لو كان فاسداً لَمَا جعل فيه الخيار، وحديثُ أبي هريرة ☺ هذا أخرجهُ مسلمٌ وأبو داود والطحاوي أيضاً، وحديث ابن عمر ☻ المذكور آنفاً أخرجه البخاريُّ [خ¦2166] ومسلمٌ والطحاويُّ أيضاً، هذا وقال ابن المنذر: أجاز أبو حنيفة التلقِّي وكرهه الجمهور، انتهى.
          وقد عرفت أنَّه ليس مذهب أبي حنيفة ☼ ما ذكره على الإطلاق، بل على التَّفصيل الذي ذُكِرَ آنفاً، والعجب من ابن المنذر وغيره كيف ينقلون عن أبي حنيفة ☼ شيئاً لم يقل به، وإنما ذلك منهم من أريحيَّة العصبيَّة كما لا يخفى.
          هذا وقال الحافظ العسقلانيُّ: يمكن أن يحمل قول البخاريِّ بأنَّ البيع مردودٌ على ما إذا اختار البائع ردَّه فلا يخالف الراجح، وتعقَّبه العينيُّ: بأنَّ هذا الحمل الذي ذكره يردُّه هذه التَّأكيدات التي ذكرها من قوله؛ لأنَّ صاحبه عاصٍ إلى آخره، ولم يبق بعد هذه إلَّا أن يقال كاد أن يخرج من الإيمان، وقد اعترض البخاريَّ الإسماعيليُّ وألزمه التناقض ببيع المصرَّاة فإنَّ فيه خداعاً، ومع ذلك لم يبطل البيع وبكونه فصل في بيع الحاضر للباد بين أن يبيع له بأجرٍ أو بغير أجر.
          واستدلَّ عليه أيضاً بحديث حكيم بن حزام ☺ الماضي في بيع الخيار ففيه: ((فإن كذبا أو كتما مُحِقَت بركة بيعهما)) قال: فلم يبطل بيعهما بالكذب والكتمان للعيب. / وقد ورد بإسنادٍ صحيحٍ: أنَّ صاحب السِّلعة إذا باعها لمن تلقاها يصير بالخيار إذا دخل السوق، ثمَّ ساقه من حديث أبي هريرة ☺ انتهى.
          ولو كان للحمل الَّذي ذكره القائل المذكور وجهٌ لذكره الإسماعيليُّ ولا أطنب في هذا الاعتراض، فافهم.