نجاح القاري لصحيح البخاري

باب ما جاء في قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في}

          ░1▒ (بابٌ مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ ╡) في سورة الجمعة ({فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ}) أي: أُدِّيت وفرغ منها، والقضاء يجيء بمعنى الأداء أيضاً ({فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ}) للتِّجارة والتصرُّف في حوائجكم ({وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}) أي: الرزق ({وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً}) أي: في مجامع أحوالكم، ولا تخصُّوا ذكره بالصلاة ({لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:10]) بخير الدارين، ولعلَّ من الله واجبٌ، وأطلق الله تعالى ورخَّص لهم بما حظر عليهم بعد قضاء الصَّلاة من الانتشار، وابتغاء الرِّزق مع التوصية بإكثار الذِّكر، وأن لا يلهيهم شيءٌ من التِّجارة وغيرها عنه. والأمر فيهما للإباحة والتَّخيير كما في قوله / تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2]، واحتجَّ به من جعل الأمر بعد الحظرِ للإباحة، ونكتتها مخالفةُ اليهود في منع ذلك يوم السَّبت، فلم يحظر ذلك على المسلمين.
          وقال الداوديُّ: هو على الإباحة لمن له كفافٌ أو لا يطيق التكسُّب، وفرض على من لا شيءَ له ويطيق التكسُّب؛ لئلَّا يحتاج إلى السُّؤال الذي هو محرَّمٌ عليه مع القدرة على التكسُّب. وقيل: من يعطف عليه بسؤالٍ أو غيره ليس طلب الكفاف عليه بفرض، وفي الحديث: ((وابتغوا من فضلِ الله ليس بطلب الدُّنيا وإنَّما هو عبادةٌ، وحضور جنازةٍ، وزيارة أخٍ في الله)).
          ({وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا}) أي: تفرَّقوا ({إِلَيْهَا}) أي: إلى التِّجارة، وإفراد التجارة بردِّ الكناية إليها؛ لأنَّها المقصودة فإنَّ المراد من اللَّهو الطبل الَّذي كانوا يستقبلون به العير.
          والتَّرديد للدلالة على أنَّ منهم من انفضَّ لمجرَّد سماع الطبل ورؤيته، أو للدلالة على أنَّ الانفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها والانتفاع بها إذا كان مذموماً، كان الانفضاض إلى اللَّهو أولى بذلك. وقيل: تقديره: إذا رأوا تجارةً انفضوا إليها، وإذا رأوا لهواً انفضُّوا إليه.
          ({وَتَرَكُوكَ}) الخطاب للنَّبي صلعم ({قَائِماً}) أي: على المنبر ({قُلْ}) يا محمَّد ({مَا عِنْدَ اللَّهِ}) من الثواب ({خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ}) الذي لا خير فيه، بل ({وَمِنَ التِّجَارَةِ}) التي فيها نفعٌ في الجملة فإنَّ ذلك محقَّق مخلَّد، بخلاف ما يتوهَّمون من نفعهما ({وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة:11]) لأنَّه موجد الأرزاق فتوكَّلوا عليه، وإيَّاه فاسألوا، ومنه فاطلبوا، وقيل: لم يكن يفوتكم الرزق لو أقمتم؛ لأنَّ الله هو خير الرازقين.
          (وَقَوْلِهِ تَعَالَى) {يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا} ({لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]) أي: بغير حقٍّ، وقام الإجماع على أنَّ التصرُّف في المال بالحرام باطلٌ حرامٌ سواءٌ كان أكلاً أو بيعاً أو هبة أو غير ذلك، والباطل اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما لا يحلُّ في الشَّرع كالربا والقمار والغصب والسَّرقة والخيانة، وكلِّ محرَّم ورد به الشَّرع.
          ({إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَة} [النساء:29]) فيه قراءتان متواترتان: الرفع على أن تكون تامة، والنصب على تقدير أن تكون الأموال أموال تجارةٍ فحذف المضاف، وقيل: الأجود الرفع لأنَّه أدلُّ على انقطاع الاستثناء، ولأنَّه لا يحتاج إلى إضمار.
          ({عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29]) أي: يرضى كلُّ واحدٍ منكم بما في يده، والمعنى ولكن كون تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين / غير منهيٍّ عنه؛ أي: إن حصلت بينكم تجارةٌ وتراضيتم فليس ذلك بباطلٍ، أو المعنى لكن اقصدوا كون {تِجَارَةٌ عَنْ تَرَاضٍ} أي: وقوعها.
          وقال أكثر المفسِّرين: هو أن يُخيِّر كلُّ واحدٍ من البائعين صاحبَه بعد العقد، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يغشَّ مسلماً.
          وروى الترمذيُّ من حديث أبي سعيدٍ ☺ مرفوعاً: ((إنَّما البيعُ عن تراضٍ))، وهو طرفٌ من حديثٍ طويل، وروى الطبريُّ من مرسل أبي قتادة أنَّ النَّبي صلعم قال: ((لا يتفرَّق بيِّعان إلَّا عن رِضىً)) ورجاله ثقاتٌ، ومن طريق أبي زُرعة بن عمرو أنَّه كان إذا بايع رجلاً يقول له: خيِّرني، ثمَّ يقول: قال أبو هريرة ☺: قال رسول الله ╧: ((لا يفترقُ اثنان _يعني: في البيع_، إلَّا عن رضىً)) وأخرجه أبو داود أيضاً، ومن طريق شعبة عن قتادة أنَّه تلا هذه الآية فقال: التِّجارة رزقٌ من رزق الله فمن طلبها بصدقها.
          وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحلُّ بها تناول مال الغير؛ لأنَّها أغلب وأرفق لذوي المروءات، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقاً. وقيل: المقصود بالنَّهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتِّجارة صرفه فيما يرضاه، والله أعلم.
          والآيتان الأُوليَّان بتمامهما مذكورتان في رواية كريمة، وأمَّا في راوية النَّسفي وأبي ذرٍّ هكذا: <{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10] إلى آخر السُّورة>.
          وسبب نزولها ما روي عن جابر بن عبد الله ☻ قال: أقبلت عير ونحن نصلِّي مع رسول الله صلعم الجمعة فانفضَّ الناس إليها، فما بقي غير اثني عشر رجلاً، وأنا فيهم فنزلت: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً} الآية.
          وروي أنَّ أهل المدينة أصابهم جوعٌ وغلاءٌ شديد، فقدم دحية بن خليفة بتجارةٍ من زيت الشَّام، والنَّبي صلعم يخطب يوم الجمعة، فلمَّا رأوه قاموا إليه بالبقيع خَشُوا أن يُسْبَقوا إليه، فلم يبق مع النَّبي صلعم إلَّا رهطٌ، منهم أبو بكر وعمر ☻ ، قيل: ثمانية، وقيل: أحد عشر، وقيل: اثني عشر، وقيل: أربعون. فقال رسول الله صلعم : ((والَّذي نفس محمَّدٍ بيده لو تتابعتم حتَّى لم يبق أحدٌ منكم لسال بكم الوادي ناراً))، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطَّبل والتَّصفيق، فهو المراد باللَّهو، وعن قتادة فعلوا ذلك ثلاث مرَّاتٍ في كلِّ مقدم عير.
          وقال بعض الشرَّاح: إنَّ الآيات المذكورة ظاهرةٌ في إباحة التَّجارة إلا قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} [الجمعة:11] الآية. فإنَّها عتبٌ عليها، فهي إلى النَّهي عنها أقرب منها إلى الإباحة لها، إلا أنَّ مفهوم النَّهي عن تركه صلعم قائماً يُشعِر بأنَّها لو خلت من العارض الراجح لم يدخل في العتب، بل كانت حينئذٍ مباحة، وقد أباحَ الله التِّجارة / في كتابه وأمر بالابتغاء من فضله، وكان أفاضل الصَّحابة ♥ يتَّجرون ويحترفون في طلب المعاش.
          وقد نهى العلماء والحكماء عن أن يكون الرَّجل لا حرفةَ له ولا صناعة خشية أن يحتاج إلى النَّاس فيذل لهم، وقد روي عن لقمان أنَّه قال لابنه: يا بنيَّ خذ من الدُّنيا بلاغك، وأنفق من كسبك لآخرتك، ولا ترفض الدنيا كلَّ الرَّفض فتكون عيالاً، وعلى أعناق الرِّجال كلالاً.